الكنيسة وتأديب الخاطيء والسعي إلى القداسة (78)
الاب فريد بطرس
الأحد الثاني من زمن الرسل (عيد الثالوث الأقدس)
” لا يَحسُـنُ بِكـم أَن تَفتَخـِروا ! أما تَعلَمـونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَميرِ يُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه ؟ طَهِّروا أنفُسَكُم مِنَ الخَميرةِ القَديمة لِتَكونوا عَجينَا جَديدًا لأنَّكُم فطير. فقَد ذُبِحَ حَمَلُ فِصْحِنا، وهو المسيح. فلْنُعيِّدْ إِذًا، ولكِن لا بِالخَميرةِ القَديمة ولا بِخَميرةِ الخُبْثِ والفَساد، بل بِفَطيرِ الصَّفاءِ والحَقّ، كتَبتُ إِليكُم في رِسالتي ألا تُخالطِوا الزُّناة. ولا أَعني زُناةَ هذا العالَمِ أوِ الجَشِعينَ والسَّرَّاقينَ وعُبَّاد الأوثانِ على الإِطْلاق، وإلَّا وَجَبَ علَيكُمُ الخُروجُ مِنَ العالَم. بل كَتَبتُ إِليكُم آلَّا تُخالِطوا مَن يُدْعى أخًا وهو زانٍ أَو جَشِعٌ أّو عابِدُ أَوثان أّو شَتَّامٌ أّو سِكِّيرٌ أّو سَرَّاق. بل لا تُؤاكِلوا مِثْلَ هـذا الرَّجُل. أَفمِن شَأني أَن أُديـنَ الَّذيـنَ في خـارِجِ الكَنيسة ؟ أَما عَلَيكُم أَنتُم أَن تدينوا الَّذينَ في داخلها ؟ أَمَّأ الَّذين في خارِجِها فالله هو الَّذي يَدينُهم. (أَزيلوا الفاسِدَ مِن بَيتِكُم) “.
(1 كو 6:5-13)
أولاً- ماذا يقول هذا النص ؟
بعدما إنتهى مار بولس من حديثه على مساوئ الأحزاب والإنشقاقات الدينية التي كانت قائمة في كنيسة كورنثوس، إنتقل مباشرة إلى معالجة حادثة محزنة جدًا، وهي حادثة الزاني بمحرَّم. لقد أطلع بولس أهل كورنثوس على خبرٍ وصله، وهو يتعلق بفضيحة أخلاقية، يعرفونها جميعًا ولا يعبأون بها، وهي أن رجلاً مسيحّيًا يخالط إمرأة أبيه مخالطة جنسيّة، وهي فاحشة لا يرتكبها الوثنيون أنفسهم، مع ما هم عليه من الفساد وسوء الأخلاق. يوبخ مار بولس مسيحيي كورنثوس لأنهم متشاغلون عما يجري داخل الجماعة من قباحة وشناعة بمظاهر الكبرياء والإنقسام والتعالي على بعضهم البعض، فكان الأولى بهم أن يحزنوا ويبعدوا الزاني عن كنيستهم. لقد قرر الرسول بولس أن يجتمع أبناء كنيسة كورنثوس وهو معهم بروحه لا بجسده، بإسم الرب يسوع، فيُحكم على هذا الرجل الزاني بتسليمه للشيطان، أي بدفعه إلى تأديبٍ إلهي بسبب خطيئته، يؤدي إلى توبته وخلاصه. ونتيجة لهذه الحادثة، يقدم مار بولس لأهل كورنثوس توجيهات أخلاقية تتضمن بعدين وهما :
1- البعد الخلاصي الكنسي والدعوة إلى ممارسة الأخلاق الصالحة : يحذر مار بولس الجماعة المسيحية في كورنثوس من إفتخارهم بأنفسهم نتيجةً لشعورٍ بالكبرياء، أعماهم عن واجبهم تجاه الخطيئة الشنيعة التي عاثت في كنيستهم فسادًا. إن حالة الكنيسة كما أسسها وأرادها الله، وكما أحبها يسوع وجاد بنفسه من أجلها، هي حالة الإمتلاء مـن النعمة والقداسة والخلو من الشرّ والعيب والخطيئة (أف 25:5-27)، ويُعبر عنها بعجين جديد وفطير، ولذلك إذا دخلها الشرّ، فيجب تنقيتها من الخميرة، التي ترمز هنا إلى الفساد الذي قد يصيب العجين، أي الكنيسة. يشير مار بولس إلى تأثير سيرة الوثنيين المحيطين بهم، وشبّه سيرتهم الفاسدة بالخميرة الصغيرة التي تخمّر العجين كلّه ” أما تعلمون أن قليلاً من الخمير يخمّر العجين كلّه ” (1 كو 6:5) ؛ ثم طلب منهم أن ينبذوا الخميرة القديمة، أي أن يتخلّوا عن عاداتهم الوثنية الفاسدة، التي كانوا عليها قديمًا، ليصبحوا عجينًا فطيـرًا يليـق في نقاوتـه بالمسيـح حمـل فصحنا ؛ فكما أن الفطير يرمز إلى التحرر من عبودية مصر بالفصح (خر 15:12-17)، كذلك على الكنيسة أن تكون خالية من الخمير، بما أنها فُصلت عن سلطان الخطيئة والموت بحمل الفصح الكامل، الربّ يسوع المسيح، لذلك وجب على الكنيسة أن تزيل كلّ آثار الخطيئة في سبيل الإنفصال عن الحياة القديمة، بما فيها تأثير الأعضاء المخطئين في الكنيسة. ولذلك يدعو مار بولس أهل كورنثوس إلى أن يعيّدوا بفطير الصدق والأخلاق الصالحة وليس بالخميرة القديمة، خميرة الخبث والخطيئة والفساد (8:5).
2- البعد العملي المباشر : عدم مخالطة المسيحي الزاني
كتب بولس إلى المسيحيين في رسالة سابقة قد فُقدت، قال لهم فيها : ” كتبت إليكم في رسالتي ألا تخالطوا الزناة ” (1 كو 9:5). فعاد في هذه الرسالة إلى الموضوع نفسه، فبين بدقة وبوضوح الجهة المقصود عدم مخالطتها، مؤكّدًا بأنهم ليسوا زناة هذا العالم أو سائر الأشرار، وإلا لإضطروا، أن يعيشوا معزولين ؛ بل أنّه المسيحي الزاني أو الشرير، فهذا الشخص، لا يحق لهم الجلوس إلى مائدتـه وتنـاول الطعام عنـده : ” فمثل هذا الرجل لا تؤاكلوه ” (1 كو 11:5)، لئلا يكون ذلك تأييدًا لسلوكه الفاسد وعثرة للأشخاص الآخرين من الجماعة. وبرّر كلامه بإشارته إلى أننا لا ندين من ليسوا بمسيحيين، فالله هو الذين يدينهم :
” أفمن شأني أن أدين الذين في خارج الكنيسة ؟ أما الذين في خارجها فالله هو الذي يدينهم ” (1 كو 12:5-13). ولكن من واجبنا ومسؤوليتنا أن نتخذ موقفًا واضحًا من كلّ مسيحي يرتكب الخطيئة جهرًا لنمنعه أن يكون سبب عثرة للآخرين، ونردعه عن مواصلة إرتكاب الخطيئة.
وأنهى كلامه بأمر واضح قاطع : ” أزيلوا الفاسد من بينكم ” (1 كو 13:5)، لئلا يفسد سائر المسيحيين، ولكن ذلك لا يكون بروح الكبرياء والعداء، بل بروح المحبّة والوداعة.
ثانيًا- ماذا يقول النص لنا وللكنيسة ؟
إذا كانت الكنيسة مقدسة كيانيًا لتأسيسها الإلهي الثالوثي، إلا أننا نراها وجوديًا تحوي الكثير من الخطأة، وهذا ما يتطلب توبةً مستمرة وتجددًا دائمًا بنعمة الله المحيية لبلوغ حالةٍ شخصيّة وكنسيّة، تقترب أكثر فأكثر من قداسة الله. لا شك أنّ الله الذي يفتقد ويرحم الإنسان، يدعو الكنيسة لتظهر رحمته وغفرانه للإنسان الخاطئ التائب، لا بل يدعوها لتسعى إلى هداية الخاطئ وعودته عن طريقه، كما فعلت القديسة تريزيا الطفل يسوع، عندما علمت من خلال الصحف، الحكم بالإعدام على المجرم برانزيني، الذي كان يرفض رفضًا باتًا أن يلتقي الكاهن، قبل تنفيذ الحكم عليه، فدأبت تريزيا تتضرع لله بالصلاة ليلاً نهارًا، لتلتمس خلاص نفس هذا المجرم. وبعد ذلك علمت من صحيفة لاكروا، بأن هذا المجرم، قبل أن يُنفذ حكم الإعدام به، أخذ الصليب من يد الكاهن وقبّله. ولكن ماذا على الكنيسة أن تفعل، عندما ترى أنّ خطيئة علنية ما، تهزّ مكانتها ومرجعيتها، وتشوّه تعاليمها وأخلاقها، وتسيء وتلوث مصداقيتها ورسالتها ؟ ليس سهلاً على الكنيسة وهي الأم، أن ترى ضالين وضائعين من أبنائها، قد فقدوا صوت الحق والضمير، فراحوا يرتكبون المعاصي المشينة كالجنس والمخدرات والتعديات المختلفة، فهنا لا بد لها من أن تحاول دفعهم إلى التوبة والعودة إلى حياة الكنيسة، وترك كل الإنحرافات الشيطانية. ولكن عندما ترى الكنيسة كمرجعية مسؤولة عن التعليم والأخلاق، بأن هناك من لا يرتدع ويمارس خطيئة ما علنًا، كما الحادثة المحزنة المشككة التي واجهها مار بولس في كنيسة كورنثوس، فعلى الكنيسة أن تكون معلمة، أي معلنة طريق الحق والحياة بشكل واضح، لا بل حازمة في مواجهتها لذلك من خلال قرارات عادلة مناسبة، تؤدي إلى القضاء الكلي على ما يثير الشكوك والإنتقاد والبلبلة وفقدان الثقة. فلا تستطيع الكنيسة أن تتفرج وتصمت عندما ترى أشخاصًا أو جماعات يسيئون إلى تعليمها العقائدي أو الأخلاقي، ويروجون لتعاليم مضللة، كما لا تستطيع إلا أن تبتر الحالات اللأخلاقية المشينة، التي لم يعرف أصحابها التوبة، كما يحدث في مواجهتها لفضائح جنسية داخل الكنيسة، أو سرقات واختلاسات لأموال الكنيسة، أو تأجيج روح الإنقسام والفتنة داخل جسدها الواحد، وغيرها من المشاكل التي قد تؤدي إلى ضعف الكنيسة وتفككها وابتعادها عن حضورها ورسالتها. إن الإصلاح الكنسي ضرورة قصوى لإقتلاع تأثيرات الشرّ والخطيئة داخل جسد المسيح، الكنيسة، لأن التساهل مع خطيئة مشينة علنية، كما فعل أهل كورنثوس بسبب كبريائهم وانشغالاتهم الدنيوية، وتأثير العقلية الوثنية عليهم ؛ يؤدي إلى تأثير كبير على كل العجين، أي الكنيسة. ولا ننسى هنا، أن يسوع قد إفتدانا بصليبه وموته، ليحررنا من الشيطان والخطيئة، فعندما ننظر إلى صليبه علينا أن نحزن لخطايانا، التي تبعدنا عن محبّة الله، وعن محبتنا لأخوتنا ولكنيستنا. لا يريد مار بولس لأهل كورنثوس أن ينعزلوا عن العالم الوثني غير المسيحي، بكل ما فيه من شرّ وخطيئة، بل لا بد لهم أن يعيشوا فيه، ولا يحق لهم أن يدينوا بل يكونوا شهودًا لمسيحية تعاكس تصرفات الناس الدنيوية واللأخلاقية، وإن كان من دينونة فالله هو الديان… كثيرًا ما نتعامل مع الناس الآخرين الذين هم خارج الكنيسة، إما بطريقة الإدانة وكأنهم كلّهم خطأة وزناة وكفرة.. إلخ، أو نبتعد عنهم بحجة المحافظة على حالة البرارة والقداسة. ما يريده مار بولس هو أن نعزل المسيحي الخاطئ المسيء للكنيسة علنًا، فلا نشاركه المأدبة، ولا نلتقي به لكي يعرف الجميع أننا لا نؤيّد ما قام به من إساءات وانتهاكات متعمدة، فيكون ذلك طريقًا لردعه وتوبته وخلاصه. وهكذا فإذا كانت الكنيسة مكانًا لحضور المحبّة الإلهيّة والشهادة لها، فإنها في الوقت نفسه عليها أن تكون مكانًا لإظهار الحقيقة، التي تؤدي إلى كشف الأخطاء والخطايا بواسطة نور المسيح، فتكون سبيلاً لتصويب طريق الكنيسة في رحلة حجها نحو قداسة الآب بواسطة قوة وإلهامات الروح القدس.
ثالثًا- صلاة من وحي النص
يا إلهنا الرحوم، يا من تفتقد الإنسان وتريد خلاصه، ولا يضلّ عن طريقك، فيرتكب المعاصي والخطايا، بل تنتظره وترسل إليه إلهاماتك الإلهيّة، لتوقظ حضورك في قلبه، فتعيده إلى طريق الحق والحياة والقداسة. لقد أسست كنيستك وأفتديتها بصليب إبنك، فأردتها مقدسة بلا عيب، شاهدةً لمحبتك ورحمتـك ونعمتـك. لقـد أردت لكنيستـك أن تكـون أداة وطـريقًا لخلاصك، فأعطيتها روحًا قدسًا، يعطيها الحكمة والشجاعة، لتكون صوتًا نبويًا صارخًا للحقيقة، ورأسًا مدبّرًا للإصلاح، كما يعلن ذلك الرسول بولس في مواجهته لخطيئة مشينة، عميت الأبصار عن رؤيتها بسبب الكبرياء والإنتفاخ. إنك تريد كنيسة، تشهد لأخلاق المسيح، الحمل الفصحي الذي ذبُح لأجلها، فأرادها أن تعيّد بفطير الصفاء والحقّ. أعطنا النعمة، نحن أبناء الكنيسة، ليكون روحك القدوس هو الذي يقودنا وليس روح العالم والكبرياء والشهوة، فلا نتساهل مع الخطيئة وآثارها المهدمة للأشخاص وللكنيسة، بل نسعى إلى التوبة والتحرر من سلطانها وموتها. أجعلنا يا ربّ، خميرة صالحة في عجين عالمنا، فلا ندين أحدًا منه، بل تكون أخلاقنا المسيحيّة وشهادتنا سبيلاً لاهتدائه وتحرره من كل الأوثان والأصنام وأنواع الزنى، فيملك ملكوتك السماوي على قلوب أبناء الكنيسة والبشر جميعًا… لك المجد إلى الأبد.