الافتتاحية

القيامة ربيعٌ دائم العدد (29)

                                                             القيامة ربيعٌ دائم

المقدّمة

إن الاحتفال بعيد قيامة ربنا يسوع المسيح في هذا الموسم الرائع من السنة، الا وهو فصل الربيع الزاهي، يكشف لنا ترابط ثلاث حقائق متشابكة بمعانيها العميقة وبأبعادها وتأثيراتها الخيّرة في حياتنا البشرية في هذه الدنيا وفي الآخرة.
إن هذه الوقائع الطبيعية والايمانية الثلاث هي : مشهد ربيع الحياة على الارض بعد منظر الموت الذي خيّم عليها في فصل الشتاء، إتّشاح المسيح بحياة جديدة خالدة بقيامته المجيدة من بين الاموات، واكتسابنا نحن البشر، بفضل قيامة المسيح، حياة جديدة على هذه الارض وفي الآخرة.
هذه الحقائق الاكيدة يَجمعها قاسم مشترك واحد، ألا وهو حلول الموت الذي يقضي على مظاهر النشاط والحيوية، ثم انبعاث حياة جديدة زاهية وسعيدة.
إن التأمّل في هذه الحقائق المترابطة في هذا العيد السعيد، يترك أثرًا خيرًا في سلوكنا وفي سياق حياتنا الارضية، ويجعلنا نتطلّع الى الحياة الخالدة بكل امل ورجاء.

ربيع الحياة على الارض

تَلبسُ الارضُ، خلال أشهر الشتاء، ثوبًا شاحبًا، إذ تنخفض درجات الحرارة اثناءَ ها، ويهجم البرد القارس عليها، وتتساقط الامطار والثلوج، فتجرّد الأشجار من اوراقها وتُعرّيها من رونقها وجمالها، وتصيب الحشائش والورود بالجفاف، فتذوي هذه وتموت، فتقتلعها الرياح العاتية والعواصف الصاخبة، وكأن الموت قد قضى على مظاهر الحياة فيها، ويصبح كل شيء جامدًا لا حراك فيه، وكأن شـبح الموت قد خيّم عليها وظللهـا 
بغمامة قاتمة.
تنقلب الامور رأسًا على عقِب خلال اشهر الربيع، إذ ترسل الشمس اشعتها الذهبية الى الارض، وتبعث بحرارتها الدافئة فتتغلغل بين ثناياها وفي تضاعيفها، وتوقظها من سباتها العميق، فتدبُّ حرارة الحياة في كل مفاصلها، فإذا بأغصان الاشجار قد تزينت بأوراقها الخضراء مرة ثانية، واذا بأزهار الثمار قد تفتحت، مرسلة أريج روائحها العطرة في كل مكان، وإذا بأديم الارض قد تزيّن هو أيضًا بورود الربيع، ذات الالوان القشيبة، كشقائق النعمان والاقحوان والريحان، وتفرش النباتات والحشائش مساحات شاسعة بسجّادات جميلة الالوان، فهناك الورود الحمراء، وهناك الازهار الصفراء وغير ذلك. هكذا تنتصر الحياة على الموت تارة أُخرى.

ربيع قيامة المسيح


لقد اراد مخلّصنا الحبيب، يسوع المسيح، أن تجري احداث موته وقيامته في هذا الحين بعينه من السنة، اي في نهاية الشتاء، الذي يسبب الموت للطبيعة، وفي بداية الربيع الذي يفجّر الحياة في كل مكان، ليكون هذا الوقت صورة معبّرة تعبيرًا رائعًا عن حياته.
كان لا بُدّ ليسوع ان يذوق الموت، لانه قَبِلَ ان يصبح جزءً ا من عناصر هذه الارض وما عليها من نبات ومن حيوان وانسان.
لكن المسيح حطّم قيود الموت، وقام حيًا من القبر. إن قيامة الرب يسوع هي استيقاظٌ من رقاد الموت، هي الربيع الجديد الذي ينتصر انتصارًا حاسمًا على شتاء الموت. بدأ يسوع بقيامته حياة جديدة، حياةً ممجَّدة، حياةً ازلية، لن ينالها الموت مرة ثانية، ولن يعكّرها الحزن ولا الالم.
إنها حياة جديدة تحطّم قيود الحياة الارضية هذه، التي تحددها حدود الزمان والمكان. فلا زمان يحدها بعد، إذ لا وجود للماضي وللمستقبل في مفهومها، إنه حاضر دائم ومستمر الى الابد. ولا مكان يحدّها، لان يسوع بدأ نمطًا جديدًا من الحياة، يجعله حاضرًا في كل مكان، اي انه يرافق مؤمنيه في أيّ زمان عاشوا وفي اي مكان وُجدوا، وعِبر الاجيال كلها … إنه الربيع الازلي، إنها حياة السعادة الدائمة، والفرح الدائم … إنها السماء الجديدة التي يتكلم عنها يوحنا الانجيلي في رؤياه بقوله : (( ورأيتُ سماءً جديدة، وأرضًا جديدة، لأنّ السماء الاولى والارض الاولى قد زالتا … هوذا مسكن الله مع الناس … فسيسكن معهم، وهم سيكونون شعوبه، وهو سيكون ” الله معهم “، وسيمسح كل دمعة من عيونهم، وللموت لن يبقى وجود بعد الآن، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم، لأن العالم القديم قد زال )) (رؤيا 1/21-8).

ربيع قيامتنا

لماذا اراد مخلّصنا الحبيب، يسوع المسيح، ان تجري أحداث موته وقيامته في هذا الحين من السنة، اي في نهاية الشتاء القاتل للحياة وبداية الربيع الذي يبعث الحياة على الارض من جديد ؟ لقد اراد ذلك لكي يفهمنا لغز حياتنا الارضية ومعناها، إنها جزء من هذه الارض ومن هذه الحياة الزمنية، فلا يمكن ان تكون مغايرة لها، فجدلية الموت والحياة تنطبق عليها ايضًا، إذ لا بُدّ من الموت الذي يضع حدًا لمقوّماتها الأرضية الطبيعية.
ولكن لا يمكن للموت ان يُفني حياة هذا الانسان البديع الذي خلقه الله، فلن تضمحلّ هذه الحياة بل ستتجدد، فالموت هو طريق المجد، كما يقول طقسنا المشرقي ” مبارك الذي وعد في بشارته القيامة والحياة والتجدد “.
إن حياة يسوع القائم المجيدة ستكون حياتنا نحن ايضًا بعد قيامتنا، كما يقول القديس بولس في رسالته الى رومية : (( كما أُقيمَ المسيح من بين الاموات بمجد الآب، … فإننا نؤمن بأننا سنحيا معه … )) (3/6-4، 8-9).
إن هذا الموت وهذه الحياة الجديدة التي عاشها المسيح في مثل هذه الايام تنطبقان علينا منذ الآن. لربما نتساءَل ماذا غيّرت قيامة المسيح في حياتنا الارضية التي نعيشها؟ يجيب القديس بولس عن هذا السؤال في رسالته الى اهل رومة قائلاً : (( أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اعتَمَذْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَذْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُوذِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب ؟ فإذا اتَّحَدْنا بِه فصِرْنا على مِثالهِ في المَوت، فسنَكونُ على مِثالِه في القِيامةِ أَيضًا. ونَحنُ نَعلَمُ أَنَّ إِنسانَنا القَديمَ قد صُلِبَ معَه لِيَزولَ هذا البَشَرُ الخاطِئ، فلا نَظَلَّ عَبيدًا لِلخَطيئَة )) (رومة 3/6-6).
إذن بواسطة العماذ نحن ايضًا نموت عن الخطيئة، ويشبّه آباء كنيستنا جرنَ العماذ احيانًا بالقبر، ثم نُبعث لنحيا حياة ابناء الله الجديدة، اي حياة القداسة، انها حياة السماء نعيشها منذ الآن.
بهذا تصبح حياتنا ربيعًا دائمًا مزركشًا بزهور الأعمال الصالحة، التي تنشر رائحة الفضيلة من حولها، فيستنشقها إخوتنا البشر، ويكتشفوا ما اعذب حياة القداسة، التي يدعونا الله لنعيشها.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى