الغني ولعازر (74)
الاب زيد عادل حبابة
إنجيل الأحد الخامس من الصيف
” قال الرب : كان رجل غني يلبس الكتان والأرجوان ويتنعم كل يومٍ تنعمًا فاخرًا. وكان مسكينٌ اسمه لعازر مطروحًا عند باب ذلك الغني مضروبًا بالقروح. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الفتات الذي يسقط من مائدة الغني حتى أن الكلاب كانت تأتي وتلحس قروحه. فاتفق أنه مات ذلك المسكين فنقلته الملائكة إلى حضن إبراهيم ومات الغني أيضًا وقُبر. وفيما هو يتعذب في الجحيم رفع عينيه عن بعدٍ فرأى إبراهيم ولعازر في حضنه. فنادى بصوتٍ عظيمٍ وقال : يا أبت إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليُبل طرف إصبعه في الماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. قال له إبراهيم : يا ابني تذكر أنك قبلت خيراتك في حياتك ولعازر بلاياهُ والآن فهو يستريح ههنا وأنت تتعذب. ومع هذا كله فإن هوةً عظيمةً قد جعلت بيننا وبينكم حتى إن الذين يريدون أن يجتازوا من هنا إليكم لا يستطيعون ولا الذين هناك أن يعبروا إلينا. قال له : اطلب إليك إذًا يا أبتِ أن ترسله إلى بيت أبي فإن لي خمسة أخوة حتى يذهب فيشهد لهم لكي لا يأتوا هم أيضًا إلى هذا موضعِ العذابِ. قال له إبراهيم : عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم. قال له : لا يا أبتِ إبراهيم بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون. قال له إبراهيم : إنْ لم يسمعوا من موسى والأنبياء فإنهم ولا إنْ قام واحدٌ من الأموات يُصدّقونه ”
(لوقا 19/16-31)
أولاً : ماذا يقول هذا النص ؟
ينفرد لوقا بذكر هذا المثل، الذي يأتي في خاتمة الفصل (16). فبعد كلام يسوع، في الآيات السابقة لنصنا، عن المال والغنى، وردود أفعال الفريسيين، ” الذين هم ممن يحبون المال والذين كانوا يسمعون كلامه ويهزأون به ” (لوقا 14/16) ؛ يعطي يسوع مثل الغني ولعازر، ويريد به تعليمًا آخر حول الغنى وتوبيخًا للفريسيين.
يظهر في النص ثلاث شخصيات رئيسية : الغني دون ذكر لإسمه، والمسكين لعازر ومعنى إسمه ” الله يساعد “، وإبراهيم أبو المؤمنين. يمثل الغني جانبًا من جوانب المجتمع الذي كانت تسيطر عليه العقلية الأنانية في زمن يسوع وفي الحقبة التي يكتب بها لوقا ؛ ويمثل لعازر الصراخ الصامت للمساكين في زمن يسوع وفي كل الأزمنة ؛ بينما يمثل إبراهيـم فكـر الله وأبـا المؤمنيـن جميعًا ؛ بالإضافة إلى شخصيات أخرى قد تبدو وكأنها ليست ذات أهمية، كإخوة الغني الخمسة الذين ما زالوا في الحياة، والذين لا يخبرنا لوقا شيئًا عن مصيرهم : هل سيتبعون أخاهم الغني أم سيعملون بما تقوله الشريعة والأنبياء وفق ما جاء على لسان إبراهيم للغني ؟
يتكوّن المثل من مشهدين، المشهد الأول يصوّر لنا الحياة الأرضية، الوافرة لإنسان غني أناني، والشحيحة لمسكين منطرح على باب ذلك الغني ؛ ما يفصل بينهما هو باب الغني المغلق، فليس هناك إستقبال ولا رحمة من جانب ذاك الغني تجاه ذاك المسكين. أما المشهد الثاني، فيصوّر لنا الإنقلاب بالأوضاع ما بعد الموت، ويوضّح لنا الحـوار الذي دار بيـن الغني وإبـراهيم، الأسباب التي أدت إلى هـذا الإنقلاب : مَن يعيش في هذا العالم مكتفيًا بذاته، وغيرَ محتاجٍ إلى الله في حياته، وغيرَ مبالٍ بالآخرين، سيكون في الحياة الأبدية أيضًا بعيدًا عن الله وعن الآخرين ؛ والعكس صحيح، فالذي لم يكن له معين في هذا العالم سوى الله، سيبقى الله معينه في الحياة الأبدية، وسيكون هناك مع جماعة القديسين.
ثانيًا : تأوين النص
يستخدم يسوع في كلامه مع مستمعيه لغة الأمثال لأجل إيصال فكرته لهم واقتياده لهم ليكتشفوا دعوة الله من خلال حقائق موجودة في واقع الحياة.
قد يتبادر إلى ذهننا، للوهلة الأولى، وعند قراءتنا للمثل أعلاه، أن يسوع يقول لنا بأن الغنى هو خطيئة وأن الأغنياء هم خطأة، وأن الفقراء هم صالحون، وبأن الأغنياء يذهبـون بالتالي إلى الجحيـم والفقـراء إلى النعيـم، كما حصل مع الغني ولعازر ؛ لكن ذلك ليس في الحقيقة ما أراده يسوع من هذا المثل ؛ لقد أراد يسوع بالأحرى من هذا المثل أن يبيِّن لسامعيه، ولنا اليوم، خطورة الغنى وسوء استخدامه لمَن لا يعرف أو لا يحسن التصرف به، فلا يشعر بالآخر ولا يفكر إلا بنفسه. فالغنى ليس حرامًا بل هو علامة بركة من الله. إذًا أين المشكلة ؟ أين الخطأ ؟
المشكلة تكمن في تصـور الإنسان أن غاية وجوده في الحياة هي في ذاته ولذاته فقط ؛ فعليه إذن أن يجمع الأموال لضمان مستقبله، جاعلاً منها هكذا الهدف الأول لحياته، ومعتقدًا واهمًا أن من حقّه التمتّع بما يملك لوحده متناسيًا ما تطلبه الشريعة منه : الإهتمام بالآخر والرحمة تجاه القريب. فخطيئة الإنسان هي في عدم إقتسام ما يملك من غنى بينه وبين الآخرين، وفي عدم الشعور بوجودهم معه في الحياة، كما حال الغني الذي لم يشعر بوجود لعازر المسكين على بابه، بينما شعرت الكلاب به وكانت تلحس قروحَه !
يتصّور العالم، والبعض منّا مخطئون، أنه من الطبيعي أن يكون في المجتمع أناس أغنياء وآخرون فقراء، وأن يكون هناك طبقتان من الناس، أناس من الدرجة الأولى وأناس من الدرجة الثانية، وأن ” هذا هو ” الواقع الراهن : كل واحد وقسمته ونصيبه في الحياة ؛ أليس في ذلك تبرير لنا لكي لا ننشغل بالآخرين، ولكي لا نعطيهم القليل من وقتنا ومما أنعم به الله علينا ؟ وقد يساعد البعض منا ويصنع صدقة، فقط لكي يزيح المحتاج من أمام عتبة بابه فلا يزعجه بطلباته وبهيئته المقرفة، وقد نكتفي أحيانًا بالقول له : ” الله يساعدك ! “. وهكذا نكون جاهلين أو متناسين أن إسم لعازر يعني ” الله يساعد ” أو ” الله يعين “. إن وجود الفقير أمامنا هو مساعدة لنا، لكي نشعر به ونشركه بطعامنا ومالنا ؛ إنه فرصة لكي نحقق إنسانيتنا ؛ فنحن إذن من هم بحاجة لمساعدة الفقراء لنا، إنهم هدية أو إشارة من الله، فإن شعرنا بها وبقيمتها وتفاعلنا معها نصبح حينها أكثر إنسانية.
يتحقق ملكوت الله على الأرض عندما نقبل بشارة يسوع المسيح في حياتنا، ونؤمن بكلامه وبحضوره بيننا في شخص وحضور الفقير والمحتاج :
” جُعـتُ فأَطعَمتُمونـي، وعَطِشـتُ فسَقَيتُمـوني، وكُنـتُ غَـريبًا فآويتُمـوني، وعُريانًا فَكسَوتُموني، ومَريضًا فعُدتُموني، وسَجينًا فجِئتُم إِلَيَّ… الحَقَّ أَقولُ لَكم : كُلَّما صَنعتُم شَيئًا مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه ” (متى 35/25-40).
إذًا الخيار متوقف علينا : بعملنا وتصرفنا نضع أنفسنا، منذ الآن، إما في الملكوت وإما في الجحيم، في ” العزلة ” حيث لا ذكر لإسمنا ” مات الغني وقبر “.
يعلمنا ربنا بهذا المثل : إن وجود الآخرين من حولنا هو دعوة لنا من الله لكي نعطي ونساعد ونخدم ؛ ربما ليس لدينا الكثير من المال لنعطيه، لكن القضية ليست بالكم المادي أو بالأمور المادية وحسب، بل هناك الكثير من الأمور التي نملكها وبإمكاننا أن نقدمها وبفرح : كل منا له لسان، فمن الممكن أن يقول كلمة طيبة ؛ كل منا له يدان ممكن أن يمسح دموع الحزانى المتعبين، كل منا له عينان فمن الممكن أن ينظر نظرة رحمة ومحبة إلى الآخر.
ثالثًا : صلاة من وحي النص
أيها الآب القدوس، يا من تريد الخلاص لجميع البشر، وقد أرسلت إبنك الحبيب يسوع المسيح، فأتمّ تدبيرك الخلاصي وأرشدنا إلى طريق الخلاص بطاعته الكاملة لمشيئتك وبمحبته ورحمته للإنسان ؛ فلينوّر روحك القدوس عقولنا لنفهم جيدًا كلمتك ونكتشف إرادتك، ونرى إبنك الحبيب يسوع مخلصنا في الإنسان المسكين الجالس على عتبة بيتنا، فنفتح له أبواب قلوبنا ونستقبله بفرح فيها.
إجعلنا يا رب أن ندرك، أن الغنى الحقيقي هو في معرفتك أنت، وفي الإتكال عليك، وعلِّمنا أن كل ما لنا من خيرات وغنى هو عطية وبركة منك، لكي نتقاسمها بفرح مع قريبنا المعوَز، وأن لا معنى لحياتنا إذا لم يكن فيها تضامن مع الآخرين. نشكرك يا رب على مساعدتك لنا من خلال ” لعازر “، كل ” لعازر ” تضعه في طريقنا وعلى باب قلوبنا. آمين