الافتتاحية

العلماء يشهدون لايمانهم العدد (75)

                                                              العلماء يشهدون لايمانهم

العلم والإيمان
لا تناقض بين الإيمان والعلم، بل تناغم وتكامل، لأن العلم يتقصّى أسرار الخليقة في تركيبها المادي، والإيمان يبحث عن أسباب وجودها ؛ يبحث كلاهما عن حقيقة واحدة، ألا وهي أَسرار الخليقة، ولكن من وجهتي نظر متميزتين ومتكاملتين معًا ؛ فالإيمان يكشف النقاب عن أَصل الإنسان وعن مصيره وعن معنى حياته : من أين أتى ؟ وإلى أين يذهب ؟ وما معنى وجوده ؟ أما العلم، فإنه يتقصّى أَسرار الخليقة في تكوينها المادي.
يتعـاون الإيمـان والعلم لخدمة الإنسان. فإذا نفينا كل تأثيـر ديني عن العلم، فستصبح إكتشافاته خطرًا يهدد سلامة البشرية ؛ فهل المستقبل السعيد الذي رجاه الإنسان من العلم كان ذاك المستقبل الذي تركه مصعوقًا إزاء ضحايا القنابل الذرية وأسلحة الدمار الشامل ؟
أما إذا تضافرت جهود العلماء واللاهوتيين، فإن إكتشافات كل فريق ستعضد الفريق الآخر ليؤدي رسالته لخدمة البشرية والتخفيف من آلام الناس وإيجاد الحلول المرضية لمشاكلهم.
لذا رحبت الكنيسة دومًا، ومنذ أَمدٍ بعيد، بالإختراعات وشجعتها، فلقد سبق البابا بيوس الثاني عشر وصرح في خطاب له سنة 1947 قائلاً : ” إن الإيمان لا يرهب من البحث العلمي، فالكنيسة ترحب وتشجع الإكتشافات العلمية الرائعة، لأنها تظهر بجلاء وقوة منقطعي النظير قدرة الله الأزلية “.
إذا تصفحنا أَبسط كتاب يسرد تأريخ الإكتشافات العلمية، نلاحظ أن العلماء المسيحيين المؤمنين كانوا حاضرين في كل الأجيال، لا بل هم الذين قادوا الإختراعات التي تفخر بها البشرية، لأنها قدَّمت لها خدمات جلّى أَغنتها عن كثير من المتاعب وحملت إليها السعادة والرفاهية ؛ يفاخر العلم بهولاء العلماء المسيحيين المؤمنين، لأنهم كانوا من جها بذته، كما تفاخر بهم الكنيسة لأنهم استطاعوا أن يوفقوا بين علمهم وبين إيمانهم في انسجام وآئتلاف منقطعي النظير، كالعالم باسكال مخترع الآلة الحاسبة، ونيوتن مكتشف قانون الجاذبية، وپاستور مكتشف اللقاح ضد مرض الكلب، والأب مندل مكتشف قانون الوراثة، وماركوني مخترع الراديو. إن هؤلاء ومئات مثلهم استطاعوا أن يقرنوا في حياتهم إيمانهم بعلمهم، فلم يكن علمهم منتقصًا عن سائر العلماء، كما لم يكن إيمانهم أَقل حرارة من سائر المؤمنين، بل أصبح علمهم أكثر رسوخًا بفضل نور الإيمان، وأصبح إيمانهم أكثر عمقًا بفضل الأنوار التي يعكسها العلم على معتقدهم.
نريد في هذه الإفتتاحية أن ننتخب ثلاثًا من هؤلاء العلماء، فنقدم نبذة قصيرة عن حياة كل واحد منهم، ونترك له أن يحدثنا عن إيمانه العميق بالله إلى جانب علمه، وسنحاول أن ننتقيهم من مختلف الأجيال ومختلف البيئات والميادين العلمية.
إسحق نيوتن (1642-1727) Isaac Newton
ولد إسحق نيوتن فجر عيد الميلاد سنة 1642 في مدينة Woolsthrope في مقاطعة لنكولن بإنكلترا. وبعد ما أَتمّ دراسته الثانوية وهو في التاسعة عشرة من عمره، إلتحق بجامعة كمبريج، حيث أَدهشت مواهبه الرياضية أساتذة الجامعة الذين تنبأوا له بمستقبل باهر.
إكتشف نيوتن قانون الجاذبية على أَثر حادث طريف جرى له، إذ كان يستظل يومًا تحت شجرة تفاح، مستغرقًا في تأملاته العلمية، فإذا بتفاحة تسقط من الشجرة عند قدميه. دفعه هذا الحادث البسيط إلى أن يتعمق في البحث عن طبيعة هذه القوة الخارقة التي تجذب الأجسام نحو مركز الأرض. وبعد فترة قصيرة برقت له فكرة تطبيق قانون الجاذبية على الكون كله. ونشر نظريته سنة 1678. فضلاً عن إكتشافات أُخرى خلدت ذكره : فهو الذي حلل الضوء وقال إنه مجموعة من مختلف الإشعاعات التي تسبب الإهتزازات الملوّنة. وما الضوء الأبيض إلا مزيج من هذه الألوان كلها ؛ واخترع نيوتن سنة 1668 تلسكوبًا رصد فيه نجوم جوبتر السيارة. ولقد أَصبح عضوًا في الجمعية الملكية الأكاديمية الفرنسية سنة 1699. توفي في 20 آذار سنة 1727، ودفن في كاتدرائية وستمنستر، بمقبرة العظماء.
مقتطفات من رسائله
” حينما كنتُ أكتب مقالي حول نظام الكون، كنتُ أَتطلع دومًا إلى المبادئ التي من شأنها أن تحمل الناس على الإيمان بالله. ولا شيء من شأنه أن يسعدني من أن أَرى بأُم عيني كتاباتي تسهم في خدمة هذه القضية الخطيرة. وإن استطعتُ في الواقع أن أؤدي خدمة للمجتمع في هذا المضمار، فلأني كنتُ مثابرًا على العمل المستمر والتأمل العميق “.
” لا بدّ من خالق كلي القدرة والحكمة لهذا النظام العجيب الذي يسوس الشمس والقمر والنجوم “.
إن هذا الكائن غير المتناهي يدبر كل الأشياء، وهو سلطانها المطلق… يجب أن نفهم بكلمة ” الله ” تلك القدرة السامية والسيطرة ليس على الكائنات الجامدة حسب، بل على الكائنات العاقلة أَيضًا…
لذا فإننا نستطيع القول بأن الإله الحقيقي هو إله حي، قدير، حكيم، أَزلي وكلي الكمال.
العلماء يشهدون لإيمانهم
لويس باستور (1822-1892) Louis Pasteur
وُلِدَ لويس پاستور سنة 1822 في مدينة دول Dole بفرنسا، وبعد أن حاز على شهادة السوربون عين أستاذًا للكيمياء في مدينة ستراسبورغ سنة 1849.
وحينما كان أستاذًا وعميدًا لكلية العلوم، أَنقذ بأبحاثه صناعة الحرير بفرنسا وسائر البلدان التي تربي دودة القز، واكتشف أَسباب عدد من الأمراض، منها الرمل الغربـالي، وكوليـرا الدجاج اللذين أوجد لهما العلاج الشافي وحدّ من فتكهما الذريع.
وصار پاستور عضوًا في الأكاديمية الطبية الفرنسية سنة 1873 ؛ وفي 6 تموز سنة 1885 قام باختبار خطير، إذ حقن بلقاح خاص ولدًا عضه كلب مسعور، وقد أدى اكتشافه للقاح ضد داء الكلب إلى إنشاء معهد باستور سنة 1888.
حين بلغ السبعين من عمره، جعلت الحكومة الفرنسية عيد ميلاده عطلة رسمية، نظرًا للخدمات الجليلة التي أداها هذا العالم العظيم للإنسانية، وتوفي سنة 1892.
شهادته
* ” علم قليل يبعد عن الله، وعلم كثير يقرب منه “.
* ” إن فكرة وجود الله واحترامه تلج نفسي بطرق لها من الثبات، ما للطرق التي تقودنا إلى معرفة الحقائق الطبيعية “.
* ” ماذا يوجد وراء السماء المرصعة بالنجوم ” ؟
توجد سماء أُخرى مرصعة بالنجوم.
ثم ماذا وراء ذلك ؟… إن العقل البشري تلزمه قوة غير منظورة للتساؤل من دون انقطاع : ” وماذا وراء ذلك ؟ “. وبما أن الجواب القائل بأن وراء ذلك فضاء وزمانًا غير محدودين لا يقنع أَحدًا، فلن يبقى للإنسان سوى أن يخر على ركبتيه ساجدًا للخالق.
* ” يوجد في كل واحد منا إنسانان : أولهما رجل العلم الذي يستطيع أن يسمو إلى معرفة أسرار الطبيعة بتجاربه وتفكيره ؛ وثانيهما رجل الإيمان والعاطفة الذي يبكي مثلاً أولاده المتوفين لأنهم ليسوا في الوجود، ولكن يؤمن بأنهم لم يفنوا كما تفنى البكتريا، لأن الحياة الكامنة فيهم ستتجدد يومًا “.
ماركوني (1874-1937) Gugleino Marconi
ولد العالم الفيزيائي ماركوني سنة 1874 في مدينة بولونيا بإيطاليا، وأنهى دراسته العالية في جامعتها. ومنذ سنة 1895 استهوته معضلة التلغراف اللاسلكي، ففي السنة نفسها أَقام إتصالاً لاسلكيًا على مسافات تزيد قليلاً على الميل الواحد، ومنذ ذلك بدأ عمله يتوسع بسرعة يومًا بعد يوم، حتى استطاع سنة 1897 أن يتصل بغواصة تبعد 12 ميلاً عن محطة أقامها في سبيتزيا بإيطاليا، وفي السنة التالية استخدم التلغراف اللاسلكي للمرة الأولى للإتصال بين السفن والسواحل، وهكذا أَصبح بالإمكان إنقاذ الحياة البشرية عبر أَخطار البحار، ولقد أَتمّ أول إتصال لاسلكي بين إنگلترا وأستراليا بالموجات القصيرة سنة 1916.
فاز ماركوني بجائزة نوبل سنة 1909، وعينه ملك إيطاليا سنة 1914 عضوًا في مجلس الشيوخ، وعين عضوًا في أكاديمية الفاتيكان بعد أن أنجز سنة 1931 تركيب محطة إذاعية في العاصمة البابوية. ولقد أَقامت له إيطاليا مأتمًا وطنيًا عند وفاته في تموز سنة 1937.
من أَقواله
إن أَجمل تصريح قاله هذا العالم الكبير المخترع للراديو، جاء في خطاب أُذيع مـن محطة الإذاعة بـالفاتيكان على أَثر تأسيسها في 12 شباط سنة 1931 قال فيه :
* ” بعون الله، الذي يضع قوة الطبيعة الخفية تحت تصرف البشرية، استطعتُ أن أُعد هذه الآلة التي ستمنح تعزية لمؤمني العالم أجمع، لأنها ستسمعهم صوت الآب الأقدس “.
* ” كل رجل علم يعرف أن هناك أسرارًا لا يسبر غورها. وليس من شيء سوى الإيمان بكائن سامٍ، هذا الإيمان الذي يستلزم منا الطاعة والخضوع، ما يشجعنا على الإقدام بجرأة على درس ما في الحياة من خفي الأسرار “.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى