الافتتاحية

العطلة زمن للإنفتاح على الحياة العدد (34)

                                                   العطلة زمن للإنفتاح على الحياة


مقدّمة : إنتهت السنة الدراسية، التي دامت تسعة أشهر، وكانت زاخرة بالعمل الدؤوب، وبالمطالعة المتعمّقة وبالسهر الطويل. وخُتمت بالإمتحانـات التي أثارت القلق أحيانًا، وانتهت بجني ثمار الجهود المبذولة : نجاحًا سعيدًا أو تعثّرًا مزعجًا أو فشلاً مؤلمًا.
لم يقتصر التعب والجهد على الطلبة المترددين إلى المدارس أو إلى المعاهد والجامعات، بل على ذويهم الذين تابعوهم بدون كلل، بل شمل التعب والجهد كل الذين كافحوا في العمل لكسب لقمة العيش لأسَرهم أو لإعداد مستقبلهم.
حلّ الآن زمن العطلـة الصيفيـة، التي تقدّم الفرصة السـانحة لتخلد شـرائح المجتمع كافة إلى الراحة : أي الطلبـة، والأهل وسـائر العامليـن في الدوائـر الحكومية أو في المؤسسات الأهلية أو في النشاطات التجارية أو في المنشآت الحِرفية الحرّة، خصوصًا وأنّ الأشهر المنصرمة تميّزت بأحداث مؤلمة زادت من وطأة التعب ومن معانـاة العمـل، ألا وهـي الأحداث التي سـبقت الحرب من تهديدات، والحرب الطاحنة التي بدأت يوم الخميـس المصادف 20 آذار 2003، التي أسفرت عن آلاف الضحايا من قتلى وجرحى، من الأطفال والشباب والشيوخ ومن الرجال والنسـاء، وزرعت الرعب في كل مكان من بلاد الرافدين، ودمّرت العديد من الأبنية والمنشآت العامة والخاصة.
بعدما وضعت الحرب أوزارهـا، أضحى أبناء الشعب العراقي بأمـس الحاجة إلى الراحة والطمأنينة خلال أشهر الصيف. فما هو مفهوم العطلة الصحيح ؟

العطلة اشتراك في راحة الخالق

نقرأ في سفر التكوين أن الله خلق السماوات والأرض وجميع ما فيها وما عليها من جماد ونبات وحيوان وإنسان في ستة أيام ” وانتهى الله في اليومِ السابع من عَمَلِه الذي عَمِلَه، واستراح في اليوم السـابع من كل عمله الذي عمله، وبارك الله اليوم السابع وقدّسه، لأنه فيه استراح من كل عمله الذي عمله خالقًا “ (تك 2/2-3).
نعلم جميعًا ان الله لم يصبْه التعب حينمـا خلق الكون وما فيه، إنما أراد أن يعطي درسًا للإنسان في ضرورة العمـل والراحة، فكما إن العمـل واجب على الإنسان، كما قال الرب للإنسان الأول، ” بمشقة تأكل من (الأرض) طوال أيام حياتك… بعرق جبينك تأكلُ خبزًا “ (تكوين 17/3-19)، فكذلك يجب على المرء أن يخلد إلى الراحة إقتداءً بالله خالقه ” في سـتة أيـام تصنع الأعمـال، وفي اليوم السابع سبت راحة مقدس للرب… لأنه في ستة أيام صنع الرب السماوات والأرض، وفي اليوم السابع استراح… “ (خروج 15/31،17).
أَمر الله بالراحة للجميع، سادةً وخدمًا، يهودًا وغرباء، بشرًا وحيوانات : ” في ستة أَيام تعمل وتصنع جميع أَعمالك كلها، واليوم السـابع سـبت للرب إلهِك، لا تعمل فيه عمـلاً انتَ وابنك وابنتك وخادمك وخادمتك وبهيمتك ونزيلك الذي دخل أَبوابك، لأنّ الرب في ستة أَيام خلقَ السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها، وفي اليوم السابع استراح… “ (خروج 8/20-11) ؛ بل إن هذه الراحة تشمل الأرض نفسـها ” ستَّ سـنين تزرعُ أرضَكَ وتجمعُ غلَّتها، وفي السـابعة أرحْها واتركها أرضَ سبات “ (خروج 10/23).

العطلة إستراحة مع يسو ع

بعث يسوع تلاميذه يومًا إثنين إثنين ليعلنوا البشرى السارّة للناس، وليدعوهم إلى التوبة، وذلك بعدما زوّدهم بسـلطات روحيـة مختلفة، منها مسح المرضى بالزيت وشفائهم، وبعدما أعطاهم تعليمات دقيقة حول اسلوب الرسالة (مرقس 7/6-11).
عاد المرسَلون إلى معلمهم الإلهي ليقدّموا تقريرًا مفصّلاً عن نشاطهم، فيتحدّثوا عن نجاحاتهم المفرحة ويستعرضوا الصعوبات التي إعترضت سـبيلهم، ويذكروا إخفاقاتهم المؤلمة (مرقس 30/6).
لاحظ يسوع علامات الإرهاق على وجوه تلاميذه بسبب نشاطهم التبشيري المكثف، وعلم انهم بحاجة ماسـة إلى التقاط أنفاسـهم والخلود إلى الراحة بعض الوقت ليستعيدوا قواهم الفكرية والجسدية.
إلاّ أن التفاف الجموع حوله وحول التلاميذ كان كبيرًا، إلى درجة انه أضحى عائقًا دون تمتع الرسل بقسط من الراحة، ” لأن القادمين والذاهبين كانوا كثيرين، حتى لم تكن لهم فرصة لتناول الطعام “ (مرقس 31/6).
قرر يسوع، والحالة هذه، ان يبادر بنفسه إلى دعوة تلاميذه ليذهبوا إلى مكان هادئ، بعيدًا عن ضوضاء الجمهور، وليقدّم لهم فرصة الإستمتاع بالراحة، ويختلوا به لاحقًا، فيتحدثوا إليه قلبًا إلى قلب، ويسـتعرضوا سياق نشـاطهم الإرسـالي، ويتلقّوا توجيهاتـه، لذا قال لهـم : ” تعالوا أنتم إلى مكـان قفر تعتزلـون فيـه واستريحوا (معي) قليلاً “ (مرقس 31/6).
فاستقلّوا السفينة، التي نقلتهم عِبر أمواج بحيرة طبرية، إلى الضفة الأخرى من البحيرة، وأوصلتهم ” إلى مكان قفر يعتزلون فيه “ (مرقس 32/6).
تُظهر هذه البادرة مدى رقّة مشـاعر يسوع الإنسـانية بجلاء، ومدى الأهمية التي يوليها ليوفّر مستلزمات الراحة لأصدقائه المنهمكين بواجبات العمل الرسولي.
بيّن يسوع بوضوح ان زمن الراحة لا يعني التوقف عن العمل والكسل، كما كان يظن الفرّيسيون، بل القيام بأعمال نافعة للإنسان ولقريبه : فسمح لتلاميذه أن يفركوا السنبل يوم السبت ويأكلوا (مرقس 23/2-27)، وشـفى يوم السبت رجلاً يده شلاّء (مرقس 1/3-6)، وشفى يوم السبت إمرأة منحنية الظهر منذ ثماني عشرة سنة (لوقا 10/13-17).
ان الراحة التي يتمتع بها الإنسـان على هذه الأرض ليست إلاّ مقدمة ورمزًا لراحة السماء، حيث ينتقل المؤمنون الذين عاشـوا على هذه الأرض بقداسـة، كما يقول سفر الرؤيا : ” فيستريحوا منذ اليوم الأول، من المتاعب، لأن أعمالهم تصحبهم “ (رؤيا 13/14).

العطلة زمن ملائم للتحرر من الهموم وللقيام بنشاطات مفيدة

يتعرض معاصرونا لتجربتيـن خطيرتيـن ومتناقضتيـن خلال أيـام العطلة : التجربة الأولى هي تجربة الكسـل، إذ يعتقد البعض ان العطلة هي زمن للتوقف عن العمل، والإسترسال في النوم سـاعات طويلة، والإستسـلام للهو وقتل الوقت عِبر أعمال لا طائلَ تحتها، كقضاء ساعات عديدة بالإستماع إلى أغاني المذياع أو مشاهدة الأفلام من على شاشة التلفاز، أو عِبر جهاز القيديو…
تقوم التجربة الثانيـة علـى الولـع الشـديد بالعمـل المتواصـل للحصول على أكبر كمية من المال، فيحتكر العمل ساعات النهار كلها وجانبا مـن سـاعات الليـل، ولا يعطي الإنسان مجالاً ليتحرر مـن التزاماتـه الاعتيادية.
إذا سـقط المرء في إحدى هاتين التجربتين، فإنـه يجلب على نفسـه وعلى أسـرته عواقب وخيمة. إذ لا توفر تجربة الكسل الفرحة والراحة الحقيقيتين، بل الملل والضـجر، والتعرض لتجارب ارتكاب الأعمـال الشـرّيرة، ولقد قيـل في الماضي ” رأس البطّال دكّان الشيطان “. وفي التجربة الثانية يستنزف العمل المتواصل طاقات الإنسان الجسدية وقواه الفكرية ويوتّر أعصابه، فيتعامل بعصبية مع ذويه وزملائه وأصدقائه، وتتعكّر علاقاته مع أحبائه.
لا تعني العطلة التوقف عن النشـاط والإستسـلام إلى البطالة وإلى ” اللاعمل اللذيـذ “، ولكن القيـام بالأعمـال التي تسـهم في اراحة الإنسـان من التعب، كالنشاطات التي لا نستطيع اداءها خلال أيام العمل بسبب ضيق الوقت، كالأعمال الخيرية : زيارة المرضى، تسلية الحزانى، مساعدة المعوزين، زيارة الأهل الذين أَهملنا زيارتهـم، والمشـاركة في الفعاليـات المختلفة التي تنظّمها الخورنات في الصيف : من إلقاء دروس التعليم المسيحي، وتنشـيط جوقات التراتيـل، ومرافقة الأشخاص الذين يعانون من مشاكل عائلية ونفسية.
يجب الإسـتفادة من زمن العطلة للقيـام بنزهات في الحدائق العامة الموجودة داخل المدينة أو في ضواحيها، والمشاركة في السفرات إلى أماكن الإصطياف لإستنشاق الهواء النقي والتأمل في المناظر الطبيعية الخلاّبة، والذهاب إلى الأماكن الأثرية، والحج إلى الأديار.
تقدّم العطلة الفرصة الملائمة لممارسة الهوايات المنشّطة جسميًا وفكريًا، كركوب الدرّاجات الهوائية والسباحة وصيد الأسماك وألعاب الشطرنج ومطالعة المجلات والكتب الدينية والإجتماعية والفلسفية المفيدة.
لا يجوز ان نعطي إجازة لله خلال العطلة، فنهمل صلاتنا وممارساتنا الدينية، بل يجب أن نواظب على المشاركة في القداس، ونود أن نؤكّد على أن العطلة تقدم فرصة ثمينـة لتخصيص وقتٍ أَطـول للإختلاء بيسـوع ومناجاته والإسـتماع إلى إلهاماته، فهو ما زال يوجّه دعوته إلينا، نحن أصدقـاءه ” تعالوا أنتم إلى مكان قفر، تعتزلون فيه واستريحوا (معي) قليلاً “ (مرقس 31/6)، فلا راحة نفسية من دون يسوع.
كما إن العطلة مناسـبة ملائمة للخلود إلى الصمت، والتفكير في معنى حياتنا، والتمييز بين ما هو جوهري وما هو عَرَضي في هذه الحياة الدنيـا، إذ كثيرًا ما نتمسّك بالقشور ونهمل اللُب.
بهذا تصبح العطلة زمنًا مُلِذًا لمن يحبون التمتّع بما تقدّمه الحيـاة من الملذّات البريئة والمفيدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى