الافتتاحية

السلام عطيّة المسيح المنبعث العدد (37)

                                                        السلام عطيّة المسيح المنبعث

إن أول هِبة يقدّمها يسوع المُنبعِث من بين الأموات لرُسله ولتلاميذه ولسائر محبّيه هي عطيّة السلام. فحينما تراءى لمريم المجدليّة ولزميلتها مريم الأخـرى ” لاقاهُما يسوع وقال لهما السلام عليكما ! “ (متى 9/28) ؛ وان أول عبارة نطق بها يسـوع القائم من القبر لتلاميـذه، يذكرها الانجيلي لوقـا على النحو الآتي : ” وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسـوع في وسـطهم وقال لهم ” السـلام معكم “ (لوقا 36/24) ؛ يذكر البشـير يوحنا ظهورَين، إسـتهلّهما يسـوع بإهداء السـلام لتلاميذه، جرى الظهور الأول في غياب توما الرسـول، وحدث الظهور الثانـي بحضوره : ” فلما كانت عشـيّة ذلك اليـوم وهو الأحد، والأبواب مُغلَقـة حيث كان التلاميـذ خوفًا من اليهـود، جاء يسـوع ووقف في وسـطهم وقال لهـم : السـلامُ معكم… غَيرَ أن توما أحد الإثنـي عشـر… لم يكن هناك معهـم… “ (يوحنا 19/20-24)، ” … وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ في البيت مرة أُخرى، وكان توما معهم، فجاء يسوع والابواب مغلَقة، فقام بينهم وقال لهم : ” السلام معكم… “ (يوحنا 26/20-29).
إن السـلام الذي يمنحه يسوع الحي هو ثمرة قيامته المجيدة، التي نحتفل بها هذا اليوم مع ملايين المسيحيين المنتشرين في كل أقطار العالم. لا يخصّ يسوع، القائم من بين الأموات، بالسلام التلاميذَ الذين تراءى لهم فقط، بل يزفّه إلى جميع المؤمنين به، عِبْرَ الأجيال البشرية كلها.
يبعث هذا السلام في نفوسنا صدىً عذبًا اليوم أكثر من أي وقت مضى، وذلك لحاجتنا الماسّة إليه، بسبب الحروب الطاحنـة والطويلة والمتتالية التي شُنَّت على بلاد الرافديـن، وبخاصة الحرب الأخيـرة، التي لم تضع أوزارها منذ أكثر من سـنة، بسبب تَبِعاتهـا الكارثيـة، منها تردّي الأوضـاع الأمنيـة، والفقر والعَوَز والضبابية المخيّمة على المستقبل.
فما هو هذا السلام الذي يريد يسوع الحي أن يمنحنا إياه، ونحن منغمسون في هذه الأوضاع الصعبة ؟
لا يُقدّم ” سلامُ العالَم “ الأمانَ للبشر
قال يسـوع لتلاميذه : ” سـلامي أُعطيكم، لستُ كما يعطي العالَم أُعطيكم “ (يوحنا 27/14) ؛ أكّد يسـوع بهذا التصريـح أن السـلام، الذي يمنحه هو للعالم، يختلف إختلافًا تامًا عن السـلام الذي يدّعي العالم تقديمه للبشـر. فما هو مفهوم ” سلامُ العالَم “ ؟
يمكننا إيجاز مفاهيم ” سلامُ العالَم “ في الأمور الآتية :
  ان ” سلامُ العالَم “ هو مجرّد تحية يتبادلهـا الناس عند إلتقائهـم قائليـن ” السلام لكم، السلام عليكم “، أو مجرّد عبارة توديعية، ينطقون بها حين افتراقهم قائلين : ” إذهبوا بسلام “، أو غيرها من العبارات المشابِهة. إن ” سلامُ العالَم “ هذا ليس إلاّ تمنيـات باهتة وكلمات فارغة من أي مفعول، إذ ليس في إمكان من يُردّدها أن يحقق الأمان لمستمعيه.
  يعني ” سلامُ العالَم “ لدى البشـر حياة خاليـة من المنغّصات والمتاعـب والمآسي، حياة يُخيّم عليها النجاح الدائم والموفّقية التامة والعافية الكاملة ؛ فحينما نسأل أحدهم ” كيف الحال ؟ “ نسمع أحيانًا جوابًا مشابهًا للرد الآتي : ” الصحة ممتازة، الأمور تسير على ما يرام، لا توجد أيُّ مشكلة “، إن هذا النوع من السلام لا وجودَ له في حيـاة أيّ إنسـان آتٍ إلى هذا العالـم، وإن وُجِدَ، فلفترة وجيزة، ولا يمكن ان يدوم طول العمر.
  يعني ” سلامُ العالَم “، لدى البعض الآخر، الإنكماشَ على المصالح الذاتية، والإنفراد بخيـرات هذه الدنيـا، والتهرّب من واجب القيـام بمسـاعدة الآخريـن والتخفيف من آلامهم، فإذا طُلب منهم تقديم مساعدة ما، أجابوا : ” أتركونا وشأنَنا ننعم بالسلام، لا تُقلِقوا راحتنا “. لَعمري إنّ هذا ليس إلاّ ” سلام الأنانيين “.
  يعني ” سـلامُ العالَـم “ أيضًا ذاك الهدوء الذي يفرضه القوي على الضعيف بقوة السلاح، أو تلك الهُدنة التي يوقّعها المتخاصِمون نتيجةَ المساومات على مصالح آنية. يشهد التاريخ ان هذا النوع من ” سلامُ العالَم “ لا يمكن ان يدوم، فإذا حدث أيّ خلل في موازين القِوى، إندلعت المنازعات مرّة أُخرى.
هكذا ليس في إمكـان ” سـلامُ العالَم “ ان يجد الحلولَ القمينـة بإزالة القلق والاضطرابات، وإحلال الطُمأنينة والإستقرار بين الناس.
هذه هي بعض مفاهيم ” السلام “ لدى العالم. فما هي مفاهيم ” السلام “ الذي يمنحُه المسيح الحي للعالم ؟
” سلام المسيح “ الحي وحده يوفر الفرح والطمأنينة للبشر
لا يعني ” السلام “، الذي تفوّهَتْ به شَفتا يسوع المسيح، مجرّد تحيّة عابرة وكلمات مبتذلة، كتلك التي ينطق بها البشر، والتي لا تحلّ مشكلة، إذ هي تمنّيات غير فاعلة.
لا يعني سلام المسـيح غِيابَ المتاعب، وانعدامَ الجهاد في سـبيل الخير، ولقد أعطى مثالاً ذاتيًا على ذلك، إذ أحاطت بحياته الأرضيـة الصعوبات والصراعات مع الشر، وذاق مرارة الألم والموت، من دون ان يفقد سلامَه الباطني، لأنه كان يُكمل إرادة أبيه السماوي بكل وعي وصفاء.
لم يَعفُ يسوع المسيح تلاميذَه من المتاعب، لا بل أنبأهم بانهم سيُعانون الشِدّة، قائلاً في نهاية خطبته الوداعية : ” قلتُ لكم هذا كله ليكون لكم بِيَ السلام، ستُعانون الشِدّة في هذا العالم، ولكن ثِقوا إني قد غلبتُ العالم “ (يوحنا 33/16). ولنتذكـر ان الجماعات المسـيحية الأولى، التي دوّن الإنجيليون بِشـارتهم لها، كانت تعيش في خِضمّ الإضطهادات الشرسة التي كان اليهود والفرس والرومان يشنّونها عليهم.
يرتبط ” سـلام المسـيح “ إرتباطًا وثيقًا بقيامتـه المجيدة، إذ من خلال هذه القيامة، بدأ يسـوع نَمَطًا جديدًا من الحضور مع مؤمنيه، يُغلّف وجودَهم، فيكون معهم وفيهم في أيّ زمان عاشوا وفي أيّ مكان.
إن حضور يسـوع الجديد هذا، مع تلاميذه ومحبيه، يمنحهم كنوزًا ثمينة جدًا، ألا وهي الفرح والطُمأنينة والهدوء والصفاء والسـلام الباطنـي، كما أكد يسـوع بنفسه قائلاً : ” … قلتُ لكم هذه الاشـياء، ليكون فيكم فرحـي، ويكون فرحُكـم تامًا “ (يوحنا 11/15).
إن قيامة المسيح تُحرّر الإنسان من القلق والاضطراب والخوف والفزع، كما أكد مـرارًا ” لا تضطرب قلوبُكـم، تؤمنـون بالله، فآمنـوا بي “ (يوحنا 1/14)، ” … سـلامي أُعطيكم … لا تضطرب قلوبكـم ولا تجزع “ (يوحنا 27/14) ؛ إن الحقيقة، التي تحرر المؤمنيـن من الخوف، هي مرافقـة يسـوع لتلاميذه في كل حين، كما يقول المزمّر ” إني ولو سِرتُ في وادي الظُلمات، لا أخافُ سُوءً ا لأنك معي “ (المزمور 23(22)/4).
إن حضور يسوع الدائم مع مؤمنيه، وتطلّع هؤلاء إلى مجيئه الثاني هو الذي يمنحهم الصبرَ في المحن، والسـكينة في الاضطرابات. فلقد وضعوا كل ثقتهم في عنايته الأبوية، واتّكلوا على وعده المقـدس، كما يقول المزمّر : ” إلى الله وحدَه تطمئن نفسي، ومن عندِه خلاصي، هو وحدَه صخرَتي وخلاصي، هو حِصني فلا أَتزعزع “ (المزمور 62(61)/1).
إختصر القديـس بولس كـل هذه الأفكـار، مؤكدًا ان المسـيح هو سـلامُنا (أفسس 14/2).
نترجم سلامنا الباطني بأعمالنا الصالحة
لا يمنحنا الله هذا السلام لننفرد بالتنعم به بأنانية، ولكن لكي ننشرَه حولَنا وبين إخوتنا البشر. فلا يمكن لهذا السلام ان يستقر فينا وينمو في نفوسنا، إلاّ إذا أصبحنا بدورنا بُناة السلام. يقول قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني في الرسالة التي وجّهها إلى العالم بمناسـبة يوم السلام العالمي بتاريخ 2000/1/1 : ” علينا ان نلتمـس السـلام كهِبـة من الله، ولكن يجب علينا بِنـاؤه يومًا فيومًا، بمعونته الإلهية، وذلك من خلال أعمال العدل والمحبة (العدد2) “.
ولكي نصبح حقًّا فعلة السلام، يجب علينا ان نكون مهيئين ومستعدّين لتلقّي هذه الهِبة السـامية من يد الله، إذ لا أحد يمكنـه ان يعطي للآخرين ما لا يملكه شخصيًا. يريد الله منا والحالة هذه، ان نكون نحن أولاً مملوئين من نِعم السلام ومن خيراته، ومن ثَمّ يُمكننا إعطاؤه للذين هم في حاجة إليه. ان السلام في العالم وفي الوطن وفي المجتمع وفي الكنيسة والسلام في عائلاتنا هو فيضٌ يطفح من سلامنا الباطني.
ما هي الأمور التي في إمكانها أن تَحرِمَنا هذا السلام ؟
هناك أمور عديدة في إمكانها ان تُعكّر سـلامنا الباطني، نحاول سردَ البعض منها كالآتي : الغرور والإدّعاء أنه نسـتطيع بلوغَ الكمال في هذه الحياة الدنيا ؛ الكبرياء الذي يجعلُنا نرثي لحالنا لأننا لم نبلغ المستوى العالي اللائق بنا ؛ تبكيت الضمير المبالَغ فيه عن الأخطاء والخطايـا التي ارتكبناها في الماضـي، وندمنا عليها، ولكنها تُسـمّم ذاكرتنا ؛ القلق من المسـتقبل، من أحداث غير متوقعة، قد تقلب مشاريعنا ومخططاتنا رأسًا على عقِب ؛ أشـغالنا الكثيرة التي تسـتنزف كل طاقاتِنا وقد تفوق قوانا الشخصية ؛ تراكم الأمور التي نؤجل القيام بها في أوقاتها المطلوبة ؛ التعب المفرِط والإنهاك وتوتّر الأعصاب ؛ علاقاتنا مع الآخرين التي تعكّر صفوَ سلامنا الباطني كالإستياء الشديد من نقائصهم وسوء تصرّفهم معنا، وعدم تمكننا من الغفران والتسامح ونسيان أعمالهم العُدوانية ؛ والأحقاد… كل هذه الأمور في وِسعِها أن تُفقِدَنا السلامَ الباطني والصفاء الداخلي.
كيف يُمكننا المحافظة على السلام، واستعادته عند فقدانه
يُمكننا المحافظة على نِعم السلام، أو إستعادتُها في حالة فقدانها، لا سمح الله، إنْ لم نَدَعِ الماضي أو المستقبل يُعكّر حياتنا، فعلينا أن نسلّم ماضينا إلى حنان الله الرحيـم الذي هو مسـتعد دائمًا ليسـامحَنا نحن ابنـاءَ ه. وأن نلجأ إلى الغفران ومسامحة القريب ونسيان سيئاته، مطبّقين ما نطلبه في الصلاة الربية حين نقول : ” … أغفر لنا خطايانـا، كما نحن نغفـر لمن أسـاءَ إلينا “، فإذا كنّا لا نغفـر للآخرين سـيئاتهم، لن نكون منطقيين مع ذواتنـا إذا ما قلنا هذا الطلب ؛ فعلينا والحالة هذه ان لا ننطق به. من الأمور التي تساعدنا في المحافظة على سلامنا الباطني، هو السيطرة على لسـاننا، الذي يسـبب لنا الكثير من المتاعب، ويزرع السَجَس فينا وحولنا.
أما بشـأن المسـتقبل، فعلينـا ان نُسلِّمه إلى عنايـة الله الربانيـة، من خلال الإستسلام البنوي لإرادته القدوسة، فنكتفي ببذل جهودِنا في تكميل إرادته ووصاياه المقدسة. من الأمور التي تساعدنا على أن نحافظ على سلام المسيح في داخلنا هو ذِكر النِعم الجَمّة التي أغدقها ويُغدقها علينا، فينبغي ان ننمّي فينا روحَ الشكر وعِرفان الجميل والتسبيح لله.
إن ما يساعدنا، مساعدة أكيدة في الحِفاظ على نعمة السلام الباطني، هو التمسّك بأوقات الصـلاة، والخلود إلى الصمت والتأمـل وقراءة الكتب المقدسـة، والقيـام بواجباتنا الدينية الإعتياديـة كالصوم والمشـاركة في أسـرار الكنيسـة، وخصوصًا في القداس الإلهي. ولا ننسَ أنّ القيام بأعمال الخير والبِر والإحسان يجلب للمحسِن السخي الرضى عن النفس والفرح الداخلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى