السلام الدائم (50)
الاب البير هشام
الأحد السادس من الرسل
القراءة الأولى
” الكَـلامُ الَّذي رآهُ أشـــَعيا بنُ آموصَ علــى يَهـوذا وأورَشَـليم : ويَكـونُ في آخــرِ الأيـَّـام أنََّ جَبـَـلَ بَـيـتِ الـرَّبِّ يُـوَطَّـدُ فـي رَأسِ الجــِبـالِ ويَرتفِـعُ فـَوقَ التـِّلالِ. وتـَجْـري إليـَه جَميـعُ الأمَمِ وتنطلِقُ شـُعوبٌ كثيرةٌ وتـَقول : هَلُـمّوا نـَصعَـدْ إلى جَبــَلِ الربِّ إلى بَيتِ إِله يَعْقوب وهو يُعَلّمُنــا طُرقـَهُ فنـَسـيرُ في سُــبُلهِ، لأَنـَّهــا مـن صِهْيـونَ تـَخـرجُ الشـَّـريعَةُ ومِن أورَشـَــليمَ كـَلِمَـةُ الـرَّبِّ. ويَحكُمُ (الربُّ) بَينَ الأمـَم، ويَقْضي للشـُّعوبِ الكَثيرة، فيَضـرِبونَ ســُـيوفـَهم سـِـكَكًـا ورِمــاحَهم مَنـاجـِلَ. فـلا تـَرفعُ أُمَّـةٌ على أُمـَّةٍ ســَيفًا ولا يَتـعلَّمـونَ الحَربَ بَعـد ذلك. هَلُمّوا يا بَيتَ يَعْقوب لِنـَسِــرْ في نورِ الرَّبِّ “.
(أشعيا 1/2-5)
لإطار التاريخي الذي ورد فيه نص (أشعيا 1/2-5)
ترتبط رسالة النبي إرتباطًا وثيقًا بشخصه وبالظروف التي دفعته لممارسة نشاطه، فإن أشـعيا يتكلّم دائمًا في أحوال معيّنة وبسـببها، وموقفه مرتبط بما يعايشـه وسطَ شعبه. ولذلك لا بدّ أولاً من استبيان الإطار التاريخي الذي ظهر فيه أشعيا عند كتابته هذا النصَّ.
ظهر أشـعيا في القرن الثـامن في عهد المـلك آحـاز (735-716 ؟ ق.م.) المليء بالأحداث السـياسية المهِمّة، إذ كانت آرام وإسـرائيل تحاولان الوقوف بوجه مملكة آشور التي بدأت قوتها تتزايد إلى حدّ جعلتهما يشعران بتهديد وجودهما. ولكن آحاز، ملك يهوذا، كانت له وجهة نظرٍ أخرى تتمثل بالاحتماء بقوة آشور هذه للحفاظ على السـلام، ممـا دفع آرام وإسـرائيل المتحالفَين على القيـام بحملةٍ على مملكته لإرغـامه علـى الوقوف إلـى جانبهمـا ضـد آشـور. ولكن حملتهمـا هذه باءت بالفشـل، وبالتـالي واصل آحاز تحالفه مع آشـور. ويبدو أن النبي أشعيا، بعد هذه الأحداث التي جرت حوالي سـنة 734 ق.م. كان قد اعتزل الحياة العامة مدة عشر سـنواتٍ، وهو يلاحـظ التزايد التدريجي الذي تشـهده قوة آشـور إلى الوقت الذي ستقضي فيه على كل مملكة إسرائيل سنة 722 ق.م.
وعندما ملَكَ حزقيا على مملكة يهوذا بعد آحاز سنة 716 ق.م. ظهر النبي أشعيا مرةً أخرى في الساحة السياسية، ولكن الملك الجديد لم يصغِ إلى مشوراته في إدارة شؤون المملكة، على الرغم من أنه (الملك) كان يسلك سلوك رجلٍ أمينٍ للرب. وظلّ أشعيا يرفض، لأسـباب دينية، تعاون يهوذا مع مصر وغيرها من الدول المجـاورة، للوقوف بوجه آشور، أيًا كانت الأسباب، مفضّلاً الأمانة للرب على أي شيءٍ آخر.
التحليل الكتابي – البيبلي
إن هذا النص هو جزء من مجموعة الفصول (2-12) التي تُعتبر كنُبوءات على إسـرائيل ويهوذا أكثرها من أقدم نبوءات أشـعيا، وهذا واضح من الآيـة الأولى : ” الكـلامُ الذي رآه أشـعيا بن آموص على يهوذا وأورشـليم “ التي تُعتبر كعنوانٍ للمجموعة الصغيرة من الأقوال الواردة في الفصول (2-5).
أما قول النبي في نصّنا هذا، فإننا نجد جوهره في سـفر النبي (ميخا 1/4-3)، إذ نجد هذا النص كلمةً بكلمة تقريبًا عند النبي ميخا، ومصدره موضع نقاش. والرأي الراجح هو أن ميخا قد أخذ عن أشعيا. وأما الأدلّة المخالفة لنسـبة هذا النص إليه، فليست حاسمة.
ومجمل النص يتكلم عن السلام الدائم متنبئًا بأن الرب هو السلام الحقيقي، معبّرًا عن ذلك بتشـبيه البيت الذي يعتلي الجبـال والتلال كلها، فتصعد إليه جميع الشعوب وكل الأمم ليتعلّموا طرق الرب، لأن الشريعة تخرج من صهيون، وكلمةُ الربِّ من أورشليم، وأولوية أورشـليم هذه بيّنها يسـوع في كلامه مع تلاميذه قبل صعوده إلى السماء حينما فتح أذهانهم ليفهموا ما تقوله الكتب عنه، قائلاً : ” وتُعلَن بإسمِه التَّوبَةُ وغُفرانُ الخَطايا لِجَميعِ الأُمَم، إبتِداءً من أُورَشَليم “ (لوقا 47/24). وفي طرق الرب، يكون السلام ولن يكون للحرب مكان.
الإطار الليتورجي
أ) علاقة هذا النص مع النصوص الأخرى
تُتلى هذه القراءة على مسـامع المؤمنين يوم الأحد السـادس من زمن الرسـل. ويعقبها قراءة من رسـالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (14/10-32) وفيها يدعوهم بولس إلى الهرب من عبادة الأوثان وإلى الإشتراك في مائدة الرب حيث جسد ودم المسيح هو الغذاء الحقيقي. وكأني برسول الأمم يشارك أشعيا في دعوته لجميع الناس ليلتزموا بإيمانهم بالرب وبمعرفة طرقـه والتغذي بكلامه لأنه السـلام الحقيقي.
أما إنجيل هذا الأحد، فهو من إنجيل لوقـا (57/12-17/13) وفيه يحثّ يسوع أولاً الجموع على المصالحة وحلّ الخلافات : ” فإذا ذَهَبْتَ مع خَصمِكَ إلى الحاكِم، فَاجتَهِدْ أن تُنهِيَ أمْـرَكَ معه في الطَّريـق… “ (58/12)، كمـا بيّن لهم ضرورة التوبة من خلال تعليقه على خبر هؤلاء الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم بدماء ذبائحهم، وأولئـك الثمـانية عشـر الذين سـقط عليهم البرج، قـائلاً : ” …. إن لم تَتوبوا تَهلِكوا بِأجمَعِكُم مِثلَهم “ (3/13). ويليه مثل التينة التي صبر عليها الرجل، معطيًا للكـرّام فرصة قلب الأرض من حولهـا وتسـميدها : ” فلَرُبَّمـا تُثـمِرُ في العـامِ المُقبِل، وإلاَّ فَتقطَعُهـا “ (9/13) وأخيرًا، شـفاء المرأة المنحنية الظهر يوم السـبت، وضرورة عمـل الخير في هذا اليوم… مـا يجمع هذه النصوص الإنجيلية هو حثّ ربّنا يسوع المسيح على التوبة، والرجوع إلى الآب الذي منه فقط ينبع السلام الذي يروي ظمأ القلوب، ويزرع السعادة في قلب الإنسان.
ب) علاقة هذا النص بالصلاة الطقسية
تدور صلوات الفرض لهذا الأحد حول الرسل القديسين الذين أعطاهم المسيح القوة ليذهبوا ويبشّروا العالم كله ببشـارة الملكوت، ويعمذوهم بحسـب وصيته. كما تقول إحدى أبيات الـ (موةبّا) الصباحية : ” يا مخلّصنا، إن الرسل القديسين حفظوا وعملوا وصايـاك المكرّمـة، وتلمذوا وعمـذوا كل المسـكونة، وأزالوا منها ظلام المعبودات، وعملوا السجود للثالوث الأوحد. خلّصنا يا رب بطلبات قديسيك وارحمنا “ (الحوذرا، المجلّد الثالث، ص144، قمد). وما بشارة المسيح التي نشرها الرسل سوى هذا السلام الذي يمنحه ربنا لكل من يفتح له قلبه ويدخله حياته. ولذلك تكرر صلاتنا الطقسية دعوة القديس بولس لكل المعمّذين، الذين عرفوا المسيح، للهرب من الكفّار والوثنيين الذين لا يعرفون الله، فتقول : ” يا إخوتي في المسيح الذين تكونتم في العمـاذ وأنتم شركاء في سـر الموت والدفن، اهربـوا من الكفّـار وابتعدوا من الوثنيين، لتكونوا شركاءً وورثةً في الملكوت “ (ص147، قمز).
رسالة هذا النص إلى عالمنا المعاصر (تأوين)
قد تفوق حاجةُ الإنسـان المعاصر اليوم إلى السـلام الحقيقي حاجتَه إلى الخبز ! ولكن متى سـيدرك الإنسان أن هذا السـلام لن يحصل عليه إلا إذا سار في طرق الربّ، التي هي طرق الحياة الحقيقية وطرق السعادة ؟! وهذا ما يدعونا إليه اليوم نصُّ أشعيا الرائع : أن نسير في درب حياتنا برفقة ربّنا، وننهل من كلمته. ولكن هذه المسيرة ستتطلب منّا أن نضرب سيوفنا سككًا ورماحنا مناجلَ، أي أن نحوّل كلّ ما يدعو إلى الحرب والعنف فينا إلى أدوات تبني جسورًا من العلاقات الطيبة، وتحرث الأرض لتزرع فيها بذور السلام الذي نحن بأمس الحاجة إليه اليوم. فرسالة النبي ليست موجهة إلى أبناء شعبه فحسب، بل هي أيضًا رسالة إلى كلّ زمنٍ