السامري الحنون (69)
الاب زيد عادل حبابة
” وإذا كاتب قام ليجرّبه فقال : يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ فقال له يسوع : ماذا كتب في الناموس، كيف تقرأ ؟ أجاب : ” أن تحب الربّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك. قال له يسوع : بالصـواب تكلمـت، إعمـل هذا فتحيا. أما هو قال أراد أن يزكي نفسه قال ليسوع : ومن هو قريبي ؟ فقال له يسوع : رجل كان نازلاً من اريحا فهجم عليه لصوصٌ فسلبوه وجرّحوه وتركوه مشرفًا على الموت ومضوا. فاتفق أن كاهنًا كان نازلاً في ذلك الطريق فأبصره وجـاز. وكذلك لاوي جـاء ووصـل إلى ذلك المكان فأبصره وجاز. ثم أن سامريًا إذ كان سائرًا وافى حيث كان. فلمّا رآه تحنن عليه، فدنا إليه وضمّد جراحاته وصبّ عليها خمرًا وزيتًا ووضعه على حماره وجاء به إلى الفندق واعتنى بأمره. وفي صباح الغد أخرج دينارين وأعطى لصاحب الفندق وقال
التحليـل الكتابي
مثل السامري الحنون خاص بالإنجيلي لوقا، فنحن لا نجده عند الإنجيليين الآخرين. إذ يأتي ضمن القسم الكبير من إنجيل لوقا، الذي يسمى رحلة يسوع إلى أورشليم، والتي ترمز إلى حياة التلميذ الذي يتبع يسوع، وحياتنا أيضًا. يأتي المثل، بعد حوار دار بين يسوع ومعلم الشريعة حول أعظم الوصايا.
يريد لوقا أن يبين من خلال سؤال معلم الشريعة، ” ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟ “، أهمية محبة الله والقريب كشرط أساسي للخلاص، فالشريعة وحدها لا تكفي إن لم يكن فيها تطبيق، أي وجوب الإنتقال من القول إلى الفعل ؛ لهذا يجعل يسوع محاوره أن يجيب بنفسه عن السؤال حسب ما تُعلِّم الشريعة : ” أن تحـب الـربّ إلهك من كـل قلبـك ومـن كل نفسك ومن كل قوتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك “ (لوقا 27/10) عنـدئذٍ يجيبـه يسوع : ”… إعمل هذا فتحيا “ (لوقا 28/10)، أي أن محبة الله والقريب هي الحياة.
إن تعليم لوقا يتجذر في التقليد اليهودي، كما يتجذر العهد الجديد في العهد القديم، ففي آية واحدة (جواب معلم الشريعـة)، يـورد لوقا تقليـدًا يعود إلى سفر التثنية : ” فأحبوا الرب إلهكم بكل قلوبكم وكل نفوسكم وكل قوتكم “ (تثنية 5/6) وإلى سفر اللاويين : ” لا تنتقم ولا تحقُد على أبناء شعبِك، بل أحِبَّ قريبَك مثلما تُحبّ نفسك، أنا الرب “ (لاويين 18/19)، حيث أنّ كـل عبـراني ملـزم أن يـردده كل يوم في صلاته ؛ ويعتبر هذا في نظر الرابينيين، صيغة أخلاقية أساسية ؛ حيث إن الرباعية ” قلب، روح، قوة، عقل “، تعبِّر عن كل إنسان ملزم أن ينضمَّ إلى الله نفسًا وجسدًا، فهو لا يميز بين وصية من درجة أولى وبين وصية من درجة ثانية. إن اهتمام لوقا الرئيسي هو محبة القريب وشموليتها التي لا يمكن فصلها عن محبة الله. إن محبة الله والقريب ترتبطان في نظر لوقا بميراث الحياة الأبدية، وهذا صدى لما جاء في التوراة ” الإنسان الذي يعمل بشرائعي وفرائضي يحيا بها “ (لاويين 5/18).
بعد هذا يتساءل معلم الشريعة ” مَن هو قريبي ؟ “ هنا سيكون المدخل إلى مثل السامري الحنون، الذي به سيقلب يسوع سؤال عالم الشريعة رأسًا على عقب ؛ كون المحبة لا يمكن تحديدها، فالقضية ليست بتحديد من هو القريب، بل أن يصبح الإنسان قريبًا لكل مَن هو بحاجـة إلى المساعـدة، مهمـا كـان وكيفما كان، دون استثناء ؛ عندها سيفهم معلم الشريعة قصد يسوع جيدًا. يختم يسوع المثل، مجيبًا عن سؤال عالم الشريعة، ومتوجهًا بصورة ضمنية إلى كل مَن يقرأ الإنجيل، ” إذهب أنت أيضًا واصنع هكذا “ (لوقا 37/10).
علاقة هذا النص مع صلاة الفرض :
نجد من خلال قراءتنا لصلاة الفرض للأحد الثالث من الرسل، وتحديدًا ترتيلة الليل (عونيظ دلليا) وترتيلة الإنجيل في القداس (عونيظ داونهليون)، بأن لهما في علاقة مع نصنا الإنجيـلـي، فتـعـبّر الترتيلـة الأولى عـن العمـل (التدبيـر) الذي صنعه الله للإنسان، من الخلـق، وإلى التجسـد والفداء، فربنا هو أول من بادر وأشفق وتحنن على الإنسان ليعطيه الحياة بإنقاذه من الموت ؛ بهذا أعطى لنا مثلاً عمليًا، أي هناك تطابق مع كلام يسوع وعمله (قولاً وفعلاً)، فعندما يكلِّم يسوع معلّم الشريعة بمثل السامري الحنون، هو أصلاً قد طبقه من خلال حياته كلها، التي بها انحنى من أجل الإنسان ليعالج ألمه وينهضه من سقوطه، ويبذل حياته كلها من أجله. وتأتي ترتيلة الإنجيل، في القداس، كمقدمة للنص الإنجيلي، فبعد أن تتكلم على المثل بصورة مختصرة، تبين في النهاية أن المسيح هو الطبيب (السامري الحنون) الذي يشفي أمراضنا وعيوبنا، من خلال نعمة سرّي الأوخارستيا ومسحة المرضى.
ترتيلة صلاة الليـل (عونيظ دلليا)
” تبارك الصالح، الذي في البدء خلق آدم على صورته ومثاله. وفي الأزمنة الأخيرة أشفق عليه، فتخلى عن مجده، وجاء من السماء لخلاصنا، واتخذ من جنسنا المائت طبيعة بشرية، ووحدها مع شخصه، وصار مدبرًا ورئيسًا وربًّا على كل ما في السماء وفي الأرض، وبه جددت الطبيعة كلها، التي كانت قد فسدت بالموت المزمن الذي سيطر عليها من جراء خطاياها “ (الحوذرا، الجزء 3، ص قيو)
ترتيلة الإنجيـل (داونهليون)
” علمتنا الحب والرحمة بتعليمك يا مخلِّصنا، لأنَّك وبَّخت اليهود الذين لا رحمة لهم، بالمثـل الـذي قُلته لهـم : كان رجلاً نازلاً من أورشليـم إلى أريحا وهجـم عليه اللصـوص، فسلبـوه، وجرحـوه، وضربوه، وتركوه معذبًا. فحدث أن كاهنًا ولاويًّا من الشريعة مرّا من هناك، ولم يشفقا على جروحه، لأنهما عديما الرحمة ؛ بينما رآه رجلٌ سامري، فضمَّد جروحه، بالخمر والزيت وهما سرّا رحمة نعمتك الفائضة. أيها المسيح، الطبيب الذي يشفي كل أوجاعنا، إشف عيوبنا بحنانك وارحمنا “ (الحوذرا، الجزء 3، ص قيز).
التأوين :
نستطيع اليوم أن نعيش هذا المثل ونجعله أكثر واقعية، إذا استبدلنا شخصياته بشخصيات أخرى نعرفها من حياتنا ومجتمعنا، عندها سنقدر أن نتصور الظروف التي ممكن أن يكون بها، شخص ما محتاج إلى مساعدتنا أو إلى التفاتة بسيطة من قِبلِنا. مرات كثيرة في الحياة لا نفطن لما يحدث حولنا، في داخل عائلاتنا، ومع جيراننا ومع زملائنا في العمل، وأقربائنا ؛ فنعيش وكأننا لوحدنا في هذا العالم، أما الآخر فلا نفكر به وربما لا نشعر بأنه موجود معنا !
قد ترمز الطريق من أورشليم إلى أريحا، إلى طرقنا اليوم التي نقطعها بسرعة ودون توقف، حيث كل منا يسير مسرعًا نحو هدفه، إلى درجة تجعله غير مبالٍ وغير مكترثٍ للأشخاص الذين معه على الطريق ؛ إنها مشكلة الفردانية والتركيز على الذات التي تقتل الإنسان وتحبسه في أفقه الضيق. فترانا لا نبادر إلى المساعدة إلا إذا كان الشخص من أقربائنا أو من ديننا أو من قوميتنا أو …الخ، أي أننا نريد تحديد قريبنا كي نساعده، كما أراد أن يفعل معلم الشريعة، بينما الطريق التي يَدلّنا عليها ربنا في هذا المثل، تخالف حساباتنا بتحديد قريبنا ؛ فحسب منطق يسوع، الواضح من الكتاب المقدس، ليس القريب مَن هو بحاجة إلى مساعدتنا، بل نحن أنفسنا علينا أن نصبح ” القريب “، لكل مَن هو بحاجة إلينا، لأن الإنسان المحتاج هو مَن يقرر، هو الذي يدعوني لأكون قريبه كي أساعده وأنقذه.
علينا إذًا أن ننحني على الفقـراء، وعلى الضعفـاء، وعلى مَن هـم متروكـون لوحدهم، أي أن نكون أكثر قربًا إلى الناس المهمشين في الحياة. ” جائعًا كنت فأطعمتموني، عطشانًا كنت فسقيتموني، غريبًا كنت فآويتمـوني، عريانًا كنت فكسوتموني، مريضًا كنت فزرتموني، وسجينًا كنت فأتيتم إليّ “ (متى 35/25-36).
اليوم لا نقدر أن نسمع هذا المثل ونبقى على الحياد أو أن نحكم عن بعد، على شخصيات المثل، وكأنها خارجة عنّا ؛ لأن الإنجيلي يريد أن يشركنا نحن أيضًا، فليست غاية يسوع أن يُقسِّم الناس، كأن يكون بعضهم لصوصًا والبعض متروكين على الأرض، والبعض غير مبالٍ، وأخيرًا الإنسان الصالح (السامري الحنون) ؛ بل هذا التقسيم بالحقيقة ممكن أن يكون في قلب كل منّا، فنحن نقدر أن نكون في بعض الأحيان كاللصوص الذين يسلبون الآخر ويجرحونه معنويًا أو ماديًا ؛ أو نكون كالكاهن واللاوي الملتزمين بحفظ الشريعة وقوانينها لكن دون تطبيقها في الواقع ؛ أو كالسامري الحنون الذي لم يمنعه شيء، ولم يبخل بشيء من أجل إنقاذ الآخر المطروح على الأرض بين الموت والحياة.