القراءات الكتابية الطقسية

السائرُ في طريقِ الرب (51)

السائرُ في طريقِ الرب
الأب ألبير هشام نعوم

الأحد الأول من الصليب والرابع من إيليا
القراءة الأولى

إسـمَعـوا أيُّهـا القـاصونَ مـا صَنـَعتُ واعرِفـوا أيُّهـا الدَّانـونَ جَبَروتي. قد فـَزِعَََ الخـاطِئونَ في صِهْيون والرِّعدَةُ أخَذَتِ الكُفَّار. مَن مِنـَّا يَسـكُنُ في النـَّـارِ الآكلـةِ ؟ ومَـن مِنــَّا يَسـكُنُ فـي المواقِـدِ الأبَديَّـة ؟ السَّــالِكُ بـِالبـِـرِّ والمُتكلِّمُ بالإستِقامةِ، الرَّافِضُ مَكاســِبَ الدَّم والمُغمِـضُ عَينـَيه عـن رُؤيَةِ الشَّـرّ، فهو يَسـكُنُ في الأعـالي وحِماه مَعاقِلُ الصُّخور. خـُبزُه مَرْزوق ٌ ومـاؤه مَكْـفول.

 (أشعيا 13/33-16)

) الإطار التاريخي الذي ورد فيه نص (أشعيا 13/33-16)
النص الذي نتناوله اليوم هو من أشـعيا الأول (الفصول 1-39). وترجع بنا هذه الفصول إلى السنوات 740-700 ق.م. برجالها وأحداثها. صار أشعيا حاملَ كلمة الله في زمنٍٍ مليء بالخطر نتيجة التوتر العام الذي حدث بسـبب انحطـاط دولة مصر العظمى، وازديـاد قوة دولة آشـور التي هددت المنطقة كلهـا. وبدأ نبيّنا المناضل الذي لا يلين يعلّم مزوّدًا بقوة الله، وبدأ تعليمه وكأنه يسير عكس التيار الجاري فيقول إن التهديد الآشـوري هو بمثابة تدخّل الله ضد شعبه الخائن. ولكن حينمـا يقلّ الخطر نرى النبي يقف ليزيل الخوف من القلوب. وفي هذه الظروف كلها، يدعو أشعيا الناس إلى الإيمـان والثقة بمواعيد الله وبالوصايـا التي أعطاها لشعبه، الإيمـان الذي يُثمر في حيـاة الإنسـان الخاصة فيجعله يسـلك في حياةٍ مستقيمة ترضي الربَّ.
2) التحليل الكتابي – البيبلي
إن نص أشعيا أعلاه هو من الفصل الثالث والثلاثين من سِفره، ويرى العلماء بالرغم من الإستنادات الكثيرة إلى مواضيع خاصة بأشـعيا، إن إنشاء هذا الفصل كله وألفاظه لا تجيز لنا أن ننسبه إلى النبي الكبير، فإن الفقرات الكثيرة الموازية لما نجده في المزامير تحملنا على أن نرى فيه ليتورجيا نبوية لاحقة للجلاء (السبي).
كما أن الآيات (14-16)، بما فيها السؤال الذي يجيب عنه تعدادُ الفضائل المطلوبة للتقرّب مـن الله، تظهـر فـي صيغـة ليتورجيا حِوارية تشبه المزمور الخامس عشـر الذي يبدأ هكذا : ” يـا ربُّ من يقيمُ في خيمتِـك، ومن يسـكُنُ في جبلِ قدسِكَ… “ والذي نتلوه في بداية قداسنا الكلداني. كمـا يشـبه المزمور الرابـع والعشرين في آياته (3-5) والتي تقول : ” من ذا الذي يصعد جبلَ الربِّ ومن ذا الذي يقيمُ في مَقرِّ قُدسِـه ؟ النقيُّ الكفَّينِ والطّاهرُ القلبِ الذي لمْ يحملْ على الباطلِ نفسَهُ ولم يحلفْ خادِعًا. بركةً ينالُ من لَدنِ الربِّ وبرًّا من إلـهِ خلاصِه “. وفي جميع هذه الآيـات نجدُ مديحًا للإنسان الذي يسير في طريق الربّ، في سلوكه وحياته، فيسكنُ الربُّ في قلبه إلى الأبدِ.
3) الإطار الليتورجي
أ) علاقة هذا النص مع النصوص الكتابية الأخرى
هناك مقابلة رائعة يمكننا ملاحظتها بين قراءات هذا الأحد الأول من الصليب والرابع من إيليـا. فنرى مـار بولس وهـو يدعو أهـل فيلبي في رسـالته لهم (27/1-11/2) بأن يسـيروا ” سيرةً جديرة ببشـارة المسـيح… “ (آية 27) وأن لا يهابوا عند ذاك خصومهم ” ففي ذلك دلالةً لهم على الهـلاك، ودلالةً لكـم على خلاصكـم “ (آية 28). وكأن رسولنا يكرّر ما قاله نبيّنا : ” قد فَزِعَ الخاطِئون في صهيون والرِّعدةُ أخَذتِ الكُفَّار “، في حين أن الذي يسلك في طريق الرب هو الذي يسـكنُ في الأعـالي فلا يخاف من جميع مضطهديه الكَفَرة والخاطئين. كما يدعو مار بولس الجميع إلى الوحدة في الفكر والإيمـان والمحبة، وبذلك يكوّنون، بحياتهم السـائرة في طريق الرب، سـورًا منيعًا ضد أعدائهم ومضاديهم. ونذكر أخيرًا أن صورة المســيح التي يرسـمها النشـيد القديم جدًا الذي اسـتشهد به بولس (الآيات 6-11)، توازي صورة الإنسـان البـار المسـتقيم الذي يصفه أشعيا النبي.
أما متّى الإنجيلي فالنص الذي تنقله لنـا قراءة هذا الأحد (12/4-16/5) يتكون من عـدّة مواضيع تبتدئ برجوع يسـوع إلى الجليـل، ودعوة التلاميذ الأولين، ويعقبها ملخّص لأعمال يسوع في الجليل، لتفتتح التطويبات الفصلَ الخامس، والتي فيها يعطي يسـوع الطوبى للفقراء والودعـاء والمحزونين والجيـاع والعطـاش والرحماء وأطهـار القلوب والسـاعين إلى السـلام والمضطهدين من أجل البِر. وأخيرًا ” طوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كل كذبٍ من أجلي. إفرحوا وابتهجوا : إن أجركم في السـماوات عظيم، هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم “ (الآيات 11و12). لا شكّ أن هذه التطويبات تشمل كلّ من يسير في طريق الرب وبحسـب إرادته وخصوصًا إذا كان فقيرًا أو وديعًا أو جائعًا وعطشانَ أو رحومًا أو طاهر القلب أو سـاعيًا إلى السـلام، وخصوصًا إذا كان مضطَهَدًا من أجل البرّ، أي من أجل حياته المسـتقيمة البارة التي يعيشـها والتي لا يثنيه عن عيشها أي خطرٍ أو اضطهادٍ خارجي.
ب) علاقة هذا النص بالصلاة الطقسية
لابدّ أن تتمحور صلوات هذا الأحد الطقسـية حول دور الصليب في حياتنـا المسـيحية وفي خلاصنـا. هذا الصليب هو الذي ينير حياتنا ويجعلنا نسـلك في طريق الرب بالإستقامة. فهذا مدراش (مدرشا) يُتلى في صلاة الصبح لهذا الأحد يتكلم عن هذا الصليب فيقول :
(الردّة) مباركٌ الذي بصليبه وضع الأمن في كل الخلائق. (1) الصليب الذي أشـرق في الأرض وأبطل قوةَ الظلام وجنس آدم، إقتنى بآدم الحياة. المجد للذي أرجع الشعوب إلى حظيرته. (2) رأى المصلوب الموت، وأرجع الوديعة ليتحرر المسـبيّون بموت مخلّصنـا. المجدُ للذي حلّ وغفر إثم خطايانـا. (3) من رأى يا إخوتي رؤية عجيبة : جسـد عُلّق على خشـبة، وأنـار البرايـا وبنوره رأى الجالسون في الظلمة النورَ. (الحوذرا، المجلد الثالث، ص297 رؤو)
4) رسالة هذا النص لعالمنا المعاصر (تأوين)
في وسط عالمنا الذي تسـوده الفوضى والاضطراب، وفي وسط بشريتنا التي
طغى عليها العنف، وفي وسط كنيستنا حيث زُرِع الخوفُ بين صفوف مؤمنيها… كم نحن بحاجةٍ إلى إنسانٍ، من بيننا، سائرٍ في طريق الرب بصدق، لا تزعزعه فوضى العـالم واضطرابه، ولا يؤثّر فيه عنفُ البشـرية، ولا مكانَ للخوف في قلبه، لأنه ببسـاطة قد وضعَ ثقته التامة في الله الذي يعرفه معرفة صحيحة. هو الذي تنطبق عليه جميع الصفات التي يذكرها أشعيا النبي وبولس الرسول وكذلك التطويبات التي قالها ربُّنا يسوع المسيح.
فما زالت التجربة تراودُ الكثيرين من الناس، وهي فقدان ثقتهم بالله بسبب عدم تحسّن الظروف، وكأني بهم ينتظرون أن تصبح ظروفهم أفضل لكي يسـترجعوا بذلك إيمانهم بإلههم ! ولكن السائر في طريق الرب، بحسب أشـعيا النبي، يعلّمنا اليوم أن نسير مثله في طريق ربّنا حتى لو واجهتنا أصعب الظروف، ورأينا في العالم كفَرة وملحدين ولا أباليين (وما أكثرهم في أيامنا هذه)، لأن إيماننا لا يعتمد على الظروف الخارجية ولا على وجود مثل هؤلاء الناس البعيدين عن الله، وإنما إيماننا يدعونا أن نحبَّ الله ونعيش بحسـب إرادته ووصاياه وحسبنا، عالمين أننا بذلك سـنواجه صعوباتٍ كبيرة من قِبل الناس المضطهِدين وكل الذين لا يريدون أن نعيش بسـلامٍ في داخلنا مع ربّنا. ولكن، إذا كنا سائرين في طريق ربّنا، فلن يقدر أحدٌ أن يزعزع حياتنا مهما كانت الضغوط الخارجية قوية. أمـا إذا كنّا بعيدين عن طريق الرب، فسنسمح للفوضى والعنف والخوف أن تحـلَّ في قلوبنـا، فنفقد بالتالي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى