الافتتاحية
الرجاء الصالح لبني البشر العدد (56)
الرجاء الصالح لبني البشر
(لوقا 2 / 14)
المسيح رجاؤنا
ورد نَص الترتيلة التي أَنشـدها الملائكة يوم ميلاد يسـوع المسـيح في الترجمة السـريانية للكتـاب المقدس المسـماة ” فشتطةِا البسـيطة “ على النحو الآتي : ” ةَشبِّوِّحـةِا لاٍلِىِا بٍـمذِومًـا. وعٍل اٍرعِــا شلِمِــا. وسٍـبّرِا طِبِّا لٍبّنٍيُّنِشِا = المجدُ لله في العُلى وعلى الأرض السلام والرجاءُ الصالح لبني البشر “ (لوقا 14/2) ؛ مـع العلم ان هذه الترنيمة الملائكيـة وردت في النَص اليوناني على النحو الآتي : ” المجدُ لله في العُلى وعلى الأرض السلام، وللناس أهل رضاه “.
إن نَص انشودة الملائكة في الترجمة السريانية البسـيطة فشتطةِا عريقة، ولقد وردت في مصادر قديمة، يذكرها ططيانوس (120-180م)(1).
يتلو أَبناء كنيسـة المشـرق الكلدانية – الآثورية نَص هذه الترنيمة السرياني في مستهل رتبهم الطقسية كافة، أي في بداية رتب أسرار الكنيسة وفي مستهل صلواتهم الطقسية التي يتلونها صباحًا ومسـاءً، وفي أوقات الصلاة الأخرى، كما نجدهـا في مستهل صلوات المساء والليل والصباح في الطقس الماروني وفي بداية صلاة الستّار (قبل الرقاد) في الطقس السرياني / الأنطاكي.
يطلب الملائكة في هذه الترنيمة الأمور الثلاثة الآتية :
(1) المجـد لله في العلى، (2) وعلى الأرض السـلام، (3) والرجـاء الصالح لبني البشر.
نود أن نشـدّد، عند تأملنـا في إفتتاحية هذا العدد من مجلة ” نـجم المشــرق “، الذي يصدر بمناسـبة عيد الميـلاد المجيد، على طلبة الملائكة الثالثة : ” والرجاء الصالح لبني البشر “، لأنهـا تعبّر تعبيرًا رائعًا عن شخص يسـوع المسـيح وعن رسـالته الخلاصية منذ يوم ميلاده من مريم العذراء، وعِبر محطات حياته الأرضية، وحتى مجيئه الثاني.
إن المسـيح هو رجاؤنا كمـا يقول القديس بولس : ” أذكروا انكم كنتم من دون المسيح… ليس لكم رجاء “ (أفسس 12/2)، فلقد كان البشر مكبّلين بالخطايا قبل مجيء المسـيح، إن مجيء المسـيح وحده منحهم الخلاص وفتح أَمـامهم مسـتقبلاً زاهرًا، ولا يمكننا نحن البشر أن نرجو هذا الخلاص من أي شخص آخر، كما يقول القديس بولس : ” ان المسيح يسوع هو رجاؤنا “ (1 طيمثاوس 1/1).
إن الرجاء المسيحي مرتبط بشوق الإنسان الفطري إلى السعادة، لأن المرء يحمل في أعماق ذاته جوعًا نحو سعادة لا حدَّ لها، لا يمكن إشـباعه بواسطة خيرات هذه الدنيا، التي تمنح سـعادة وقتية ؛ المسـيح وحده في إمكانه أن يقدم الأمل والرجـاء لإرواء هذا العطش إلى سعادة لا حدَّ لها.
ونظرًا لأهميـة هذا الموضـوع، لقد كرّس المجمع المسـكوني الفاتيكاني الثاني دسـتورًا رعويًا أَسـماه ” فرح الرجاء أو الكنيسـة في عالم اليوم “، لأن الرجـاء المسيحي ميزة شعب الله السائر نحو المقر السماوي.
أصدر قداسة البابا بندكتوس السادس عشر إلى الآن رسالتين حبريتين : الرسالة الأولى في شهر كانون الثاني عام 2006، عنوانها ” الله محبة “ ؛ وكرّس قداسته رسـالته الحبرية الثانية لموضوع الرجاء، التي أصدرهـا بتاريخ 2007/12/1 تحت عنوان ” مخلَّصون بالرجـاء SPE SALVI “، إستفى قداسـته هـذا العنوان من قول القديس بولس : ” لأننــا في الرجـاء نلنـا الخلاص “ (رومـة 24/8). قدّم أبو المؤمنين في هذه الرسـالة تأملاً رائعًا حول الرجاء المسـيحي إزاء أوهام زماننا الحاضر، الذي يعتمد على التقدم المادي وحده، وإزاء الإحباط الذي يشـعر به البشـر إزاء إخفـاق التقدم العلمي في توفير السعادة للبشر، حين لا يرافق التقدم الأدبي التقدم العلمي.
المسيح رجاؤنا في الحياة الدنيا
بُهِرَ الإنسـان المعاصر بالإنجازات العلمية المتطورة التي حققهـا، وتخيل انهـا ستوفر له السـعادة الكاملة والرفـاه على هذه الأرض ومنذ الآن ؛ إلاّ ان نتائج هذا التقدم العلمي خيبت آماله أحيانًا كثيرة، لأنها سـببت له الكوارث : الحروب العالمية والمحلية، القنابل الذرية وأسـلحة الدمار الشـامل، التطهير العرقي، الإرهاب، تلوث البيئة، تدمير الطبيعة، بأشجارها وحيواناتها، التغيير المناخي وارتفاع درجات حرارة الأرض… ولم يَعُدِ الإنسان يتساءل ما هي الأمور التي يأمل الحصول عليها، بل بدأ يتساءل هل عاد ممكنًا أن يرجو شيئًا ما صالحًا ؟
إلاّ ان الرجاء بالمسيح يشعّ وسط هذا الظلام، ليؤكد أنه في استطاعة الإنسان أن يرجو، برغم كل هذه الأوضاع المؤلمة، كمـا يقول القديس بولس : ” نفتخر بالرجاء لمجد الله، لا بل نفتخر بشدائدنا نفسها، لعلمنا أن الشدّة تلد الثبات، والثبات يلد فضيلة الاختبار، وفضيلة الاختبار تلد الرجاء، والرجاء لا يخيب صاحبه، لأن محبة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهبَ لنا “ (رومة 2/5-5).
إن الرجاء المسيحي مؤسَّس على محبة الله غير المحدودة لنا، كمـا يؤكد القديس بولس قائلاً : ” إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا ؟ الله الذي ما بَخِلَ بابنه نفسـه، بل أسلمه إلى الموت من أَجلنا، كيف لا يهب لنا معه كل شيء “ (رومة 31/8-32).
يسـتند الرجاء المسيحي على الحقائق الأربع الآتية : (1) إن الله قادر على كل شيء، (2) إن الله يحبنـا محبة والدية جمّة، (3) إن الله ينبوع الرحمـة والحنـان، (4) إن الله وعدنا أن يمنح لنا نِعَمَه التي نحتاجها، وهو أَمين في تنفيذ وعوده.
نجد محتوى الرجـاء المسـيحي في ختام قانون الإيمـان الآتي : ” ننتظر قيامة الموتى، وحيـاة جديدة في العالم العتيد “ ؛ إلاّ ان الرجـاء ببلوغ الحيـاة الأبديـة، لا يعفينـا من مسـؤولياتنا الإجتماعية ؛ فعماذنا المسيحي قد دمجنا بموت المسـيح وبقيامته المجيدة، وعلينا منذ الآن أن نحيا وفق الحيـاة الجديدة التي نالهـا المسـيح بقيامته، أي حياة أبناء الله، التي تدفعنا للعمل في سبيل تغيير هذا العالم نحو الأفضل، لتسود العدالة بين الناس، وليستتب السلام والوئام بين البشر ؛ الرجاء ليس هروبًا من مسؤولياتنا تجاه من يطلب مساعدتنا، فالحيـاة المعطاء في هذا العالم العابر في نظر المسيحيين طريق إلى الحياة الأبدية، كما يقول القديس بطرس ” قدّسوا الرب المسيح في قلوبكم، وكونوا مستعدين لأن تستجيبوا لكل من يطلب منكم، دليل ما أَنتم عليه من الرجاء “ (1 بطرس 15/3).
إن ” يسـوع المسـيح رجاؤنا “ يعني أن نثق بوعوده التي قطعها على نفسه أنه يمنحنا نِعَمَه، ولكن هذه الوعود مرتبطة بموقف البشر من وصاياه ومبادئه، وتعاليمه الخلاصيـة، إذ يقـول : ” مـن تلقّى وصايـاي وحفظهـا، فـذاك الذي يحبّني “ (يوحنا 21/14)، من هذه الوصايا التي منحها الرب للإنسـان ما يأتي : ” أحبب الربَّ إلهكَ من كل قلبــك ومـن كل نفسـك ومن كل ذهنك، وأحبب قريبـك حبـك لنفـسـك… “ (متى 37/22)، ” وإن تغفروا للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس، لا يغفر لكم أبوكم زلاّتكم “ (متى 14/6).
سيتمكن البشر من الحصول على ما يرجونه من الخير والسلام، إذا ما طبّقوا ما
ورد في شرعة المسيح الجديدة، الواردة في خطبته على الجبل : ” طوبى للودعاء… طوبى للجياع والعطاش إلى البر… طوبى للرحماء فانهم يُرحمون… طوبى لفاعلي السلام فانهم أَبناء الله يُدعَون… (متى الفصل 5). ” سـمعتم أنه قيل : ” أَحبب قريبك وابغض عدوّك “ أما أَنا فأقول لكم : ” أحبوا اعداءَكــم، صلّوا من أجل مضطهديكـم، لتصيروا بني أبيكم الذي في السماوات، لانه يطلع شمسه على الأبرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبــرار والفجّـــار… فــإن أحببتـم مـن يحبكـم، فأي أجــر لكـــم ؟ أوليس الوثنيـون يفعلـون ذلك… “ (متى 43/5-48).
” فكــل مــا أردتم أن يفعـل الناس لكـم إفعلوه أنتم لهــم، هـذه خلاصــة الشـريعة والأنبياء “ (متى 12/7).
إذا طبّق الناس وصايا يسوع هذه، يمكنهم رجاءَ حياة يُخيم عليها السلام والسعادة والرفاه والرجاء، وكلّما زاغوا عن وصايا يسوع هذه، تخبّطوا في المشـاكل والمآسي والحروب والمنازعات.
المسيح رجاؤنا في الحياة الأبدية
عبّر الفيلسوف عمّانوئيل كانْت في غروب حياته، عن التسـاؤلات التي يطرحهـا كل إنسان آتٍ إلى هذا العالم، وليس في إمكانه التهرب من طرحها على نفسه : ماذا هو مصير حياته الأرضية ؟ ما الذي ينتظره حينما يبلغ خاتمتهـا ؟ ؛ وقال كانْت : ” ما الذي نتمكن أن نرجو الحصول عليه ؟ “.
لا شك ان حياتنا الأرضية خاضعة لخبرة الزوال، ولكنهـا في الوقت عينه تتوق إلى مـا هو دائم، إلى الأبدية ؛ فكل اختبـار للسـعادة على هذه الأرض، هو وعد بسـعادة دائمة، فالإنسان لا يجد ملء اكتمال رجائه في ما يتسـم به الزمن الأرضي من زوال، إنما في الحيـاة الأبدية لدى الله كمـا يقول القديس بولس : ” إن الشدة الخفيفة العابرة تُعِدُّ لنـا قدْرًا فائقًا أَبديًا من المجــد، فاننـا لا نهدف إلى ما يُرى، بل إلى مـا لا يُُرى، فالذي يُرى انمــا هو إلى حين، وأمـــا مـا لا يُرى فهــو للأبــد “ (2 قورنتس 17/4) ” ونحن نعلم أنه إذا هُدمَ بيتنا الأرضي، وما هو إلاّ خيمة، فلنا في السـماوات مسكن من صنع الله، بيت أبدي لم تصنعه الأيدي “ (2 قورنثس 1/5).
لا يقتصر رجاؤنا بالمسيح في هذه الحياة الدنيا فقط، بل يكتمل رجاؤنا بيسوع في الحياة الخالدة، كما يؤكد القديس بولس : ” إذا كان رجاؤنا في المسيح مقصورًا على هذه الحياة، فنحن أَشقى الناس أَجمعين “ (1 قورنتس 19/15).
إن الرجاء الأكيد لقيامتنا يستند إلى قيامة المسيح نفسه، كأخ بِكْرٍ لإخوته الذين يموتون، كمـا يقول القديس بولس : ” إن المسـيح قد قـام من بين الأمـوات، وهـو بكر الراقدين…. فكما يموت جميع الناس في آدم (أي كأبناء آدم)، فكذلك سيحيون جميعًا في المسيح، كل واحد حسب رتبته، فالبكرُ أولاً وهو المسيح ثم الذين يكونون خاصة المسيح عند مجيئه “ (ا قورنتس 20/15-23).
إن قيامة المسـيح شاهد أسمى لقدرة الله، والضمان الأكيد لمواعيده السنية. إن ما بدأه وأنجزه في المسـيح، سوف ينجزه فينا، إذا ما مُتنا مع المسيح كما يقول القديس بولس : ” نحن نؤمن بان يسوع قد مات ثم قام، فكذلك سينقل الله، بيسوع ومعه، أولئك الذين ماتوا “ (1 تسالونيقي 14/4).
كما أن يسـوع انتقل بقيامته المجيدة من الحالة الأرضية إلى حالة المجد الأبدي، كذلك ينال الإنسان في القيامة كيانًا جديدًا وممجدًا، كمـا يقول القديس بولس : ” …اننا نتبدّل جميعًا، في لحظة وطرفة عين… يقوم الأموات غير فاسدين ونحن نتبدّل. فلا بُدَّ لهذا الكائن الفاسد أن يلبــس مـا ليس بفاســد ولهـذا الكائن الفاني ان يلبس الخلــــود “ (1 قورنتس 51/15-53).
رجاؤنا بالمسـيح يجعلنا أن نتطلع إلى عالم جديد خالد وسعيد، كما يقول القديس يوحنا : ” هوذا مسـكن الله مع الناس. فسـيسـكن معهم وهـم سـيكونون شـعوبه وهو سيكون ” الله معهم “، وسـيمسـح كل دمعةٍ من عيونهم، وللموت لن يبقى وجود بعد الآن، ولا للحزن، ولا للصــراخ ولا للألم لن يبقى وجـود بعـد الآن، لأن العــالم القديــم قــد زال “ (رؤيا يوحنا 3/21-4).
(1) KOBERT R. Sabra taba im syrischen Tatian Lk 2/14 : Biblica 42 (1961) 90-91
(لوقا 2 / 14)
المسيح رجاؤنا
ورد نَص الترتيلة التي أَنشـدها الملائكة يوم ميلاد يسـوع المسـيح في الترجمة السـريانية للكتـاب المقدس المسـماة ” فشتطةِا البسـيطة “ على النحو الآتي : ” ةَشبِّوِّحـةِا لاٍلِىِا بٍـمذِومًـا. وعٍل اٍرعِــا شلِمِــا. وسٍـبّرِا طِبِّا لٍبّنٍيُّنِشِا = المجدُ لله في العُلى وعلى الأرض السلام والرجاءُ الصالح لبني البشر “ (لوقا 14/2) ؛ مـع العلم ان هذه الترنيمة الملائكيـة وردت في النَص اليوناني على النحو الآتي : ” المجدُ لله في العُلى وعلى الأرض السلام، وللناس أهل رضاه “.
إن نَص انشودة الملائكة في الترجمة السريانية البسـيطة فشتطةِا عريقة، ولقد وردت في مصادر قديمة، يذكرها ططيانوس (120-180م)(1).
يتلو أَبناء كنيسـة المشـرق الكلدانية – الآثورية نَص هذه الترنيمة السرياني في مستهل رتبهم الطقسية كافة، أي في بداية رتب أسرار الكنيسة وفي مستهل صلواتهم الطقسية التي يتلونها صباحًا ومسـاءً، وفي أوقات الصلاة الأخرى، كما نجدهـا في مستهل صلوات المساء والليل والصباح في الطقس الماروني وفي بداية صلاة الستّار (قبل الرقاد) في الطقس السرياني / الأنطاكي.
يطلب الملائكة في هذه الترنيمة الأمور الثلاثة الآتية :
(1) المجـد لله في العلى، (2) وعلى الأرض السـلام، (3) والرجـاء الصالح لبني البشر.
نود أن نشـدّد، عند تأملنـا في إفتتاحية هذا العدد من مجلة ” نـجم المشــرق “، الذي يصدر بمناسـبة عيد الميـلاد المجيد، على طلبة الملائكة الثالثة : ” والرجاء الصالح لبني البشر “، لأنهـا تعبّر تعبيرًا رائعًا عن شخص يسـوع المسـيح وعن رسـالته الخلاصية منذ يوم ميلاده من مريم العذراء، وعِبر محطات حياته الأرضية، وحتى مجيئه الثاني.
إن المسـيح هو رجاؤنا كمـا يقول القديس بولس : ” أذكروا انكم كنتم من دون المسيح… ليس لكم رجاء “ (أفسس 12/2)، فلقد كان البشر مكبّلين بالخطايا قبل مجيء المسـيح، إن مجيء المسـيح وحده منحهم الخلاص وفتح أَمـامهم مسـتقبلاً زاهرًا، ولا يمكننا نحن البشر أن نرجو هذا الخلاص من أي شخص آخر، كما يقول القديس بولس : ” ان المسيح يسوع هو رجاؤنا “ (1 طيمثاوس 1/1).
إن الرجاء المسيحي مرتبط بشوق الإنسان الفطري إلى السعادة، لأن المرء يحمل في أعماق ذاته جوعًا نحو سعادة لا حدَّ لها، لا يمكن إشـباعه بواسطة خيرات هذه الدنيا، التي تمنح سـعادة وقتية ؛ المسـيح وحده في إمكانه أن يقدم الأمل والرجـاء لإرواء هذا العطش إلى سعادة لا حدَّ لها.
ونظرًا لأهميـة هذا الموضـوع، لقد كرّس المجمع المسـكوني الفاتيكاني الثاني دسـتورًا رعويًا أَسـماه ” فرح الرجاء أو الكنيسـة في عالم اليوم “، لأن الرجـاء المسيحي ميزة شعب الله السائر نحو المقر السماوي.
أصدر قداسة البابا بندكتوس السادس عشر إلى الآن رسالتين حبريتين : الرسالة الأولى في شهر كانون الثاني عام 2006، عنوانها ” الله محبة “ ؛ وكرّس قداسته رسـالته الحبرية الثانية لموضوع الرجاء، التي أصدرهـا بتاريخ 2007/12/1 تحت عنوان ” مخلَّصون بالرجـاء SPE SALVI “، إستفى قداسـته هـذا العنوان من قول القديس بولس : ” لأننــا في الرجـاء نلنـا الخلاص “ (رومـة 24/8). قدّم أبو المؤمنين في هذه الرسـالة تأملاً رائعًا حول الرجاء المسـيحي إزاء أوهام زماننا الحاضر، الذي يعتمد على التقدم المادي وحده، وإزاء الإحباط الذي يشـعر به البشـر إزاء إخفـاق التقدم العلمي في توفير السعادة للبشر، حين لا يرافق التقدم الأدبي التقدم العلمي.
المسيح رجاؤنا في الحياة الدنيا
بُهِرَ الإنسـان المعاصر بالإنجازات العلمية المتطورة التي حققهـا، وتخيل انهـا ستوفر له السـعادة الكاملة والرفـاه على هذه الأرض ومنذ الآن ؛ إلاّ ان نتائج هذا التقدم العلمي خيبت آماله أحيانًا كثيرة، لأنها سـببت له الكوارث : الحروب العالمية والمحلية، القنابل الذرية وأسـلحة الدمار الشـامل، التطهير العرقي، الإرهاب، تلوث البيئة، تدمير الطبيعة، بأشجارها وحيواناتها، التغيير المناخي وارتفاع درجات حرارة الأرض… ولم يَعُدِ الإنسان يتساءل ما هي الأمور التي يأمل الحصول عليها، بل بدأ يتساءل هل عاد ممكنًا أن يرجو شيئًا ما صالحًا ؟
إلاّ ان الرجاء بالمسيح يشعّ وسط هذا الظلام، ليؤكد أنه في استطاعة الإنسان أن يرجو، برغم كل هذه الأوضاع المؤلمة، كمـا يقول القديس بولس : ” نفتخر بالرجاء لمجد الله، لا بل نفتخر بشدائدنا نفسها، لعلمنا أن الشدّة تلد الثبات، والثبات يلد فضيلة الاختبار، وفضيلة الاختبار تلد الرجاء، والرجاء لا يخيب صاحبه، لأن محبة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهبَ لنا “ (رومة 2/5-5).
إن الرجاء المسيحي مؤسَّس على محبة الله غير المحدودة لنا، كمـا يؤكد القديس بولس قائلاً : ” إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا ؟ الله الذي ما بَخِلَ بابنه نفسـه، بل أسلمه إلى الموت من أَجلنا، كيف لا يهب لنا معه كل شيء “ (رومة 31/8-32).
يسـتند الرجاء المسيحي على الحقائق الأربع الآتية : (1) إن الله قادر على كل شيء، (2) إن الله يحبنـا محبة والدية جمّة، (3) إن الله ينبوع الرحمـة والحنـان، (4) إن الله وعدنا أن يمنح لنا نِعَمَه التي نحتاجها، وهو أَمين في تنفيذ وعوده.
نجد محتوى الرجـاء المسـيحي في ختام قانون الإيمـان الآتي : ” ننتظر قيامة الموتى، وحيـاة جديدة في العالم العتيد “ ؛ إلاّ ان الرجـاء ببلوغ الحيـاة الأبديـة، لا يعفينـا من مسـؤولياتنا الإجتماعية ؛ فعماذنا المسيحي قد دمجنا بموت المسـيح وبقيامته المجيدة، وعلينا منذ الآن أن نحيا وفق الحيـاة الجديدة التي نالهـا المسـيح بقيامته، أي حياة أبناء الله، التي تدفعنا للعمل في سبيل تغيير هذا العالم نحو الأفضل، لتسود العدالة بين الناس، وليستتب السلام والوئام بين البشر ؛ الرجاء ليس هروبًا من مسؤولياتنا تجاه من يطلب مساعدتنا، فالحيـاة المعطاء في هذا العالم العابر في نظر المسيحيين طريق إلى الحياة الأبدية، كما يقول القديس بطرس ” قدّسوا الرب المسيح في قلوبكم، وكونوا مستعدين لأن تستجيبوا لكل من يطلب منكم، دليل ما أَنتم عليه من الرجاء “ (1 بطرس 15/3).
إن ” يسـوع المسـيح رجاؤنا “ يعني أن نثق بوعوده التي قطعها على نفسه أنه يمنحنا نِعَمَه، ولكن هذه الوعود مرتبطة بموقف البشر من وصاياه ومبادئه، وتعاليمه الخلاصيـة، إذ يقـول : ” مـن تلقّى وصايـاي وحفظهـا، فـذاك الذي يحبّني “ (يوحنا 21/14)، من هذه الوصايا التي منحها الرب للإنسـان ما يأتي : ” أحبب الربَّ إلهكَ من كل قلبــك ومـن كل نفسـك ومن كل ذهنك، وأحبب قريبـك حبـك لنفـسـك… “ (متى 37/22)، ” وإن تغفروا للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس، لا يغفر لكم أبوكم زلاّتكم “ (متى 14/6).
سيتمكن البشر من الحصول على ما يرجونه من الخير والسلام، إذا ما طبّقوا ما
ورد في شرعة المسيح الجديدة، الواردة في خطبته على الجبل : ” طوبى للودعاء… طوبى للجياع والعطاش إلى البر… طوبى للرحماء فانهم يُرحمون… طوبى لفاعلي السلام فانهم أَبناء الله يُدعَون… (متى الفصل 5). ” سـمعتم أنه قيل : ” أَحبب قريبك وابغض عدوّك “ أما أَنا فأقول لكم : ” أحبوا اعداءَكــم، صلّوا من أجل مضطهديكـم، لتصيروا بني أبيكم الذي في السماوات، لانه يطلع شمسه على الأبرار والأخيار، وينزل غيثه على الأبــرار والفجّـــار… فــإن أحببتـم مـن يحبكـم، فأي أجــر لكـــم ؟ أوليس الوثنيـون يفعلـون ذلك… “ (متى 43/5-48).
” فكــل مــا أردتم أن يفعـل الناس لكـم إفعلوه أنتم لهــم، هـذه خلاصــة الشـريعة والأنبياء “ (متى 12/7).
إذا طبّق الناس وصايا يسوع هذه، يمكنهم رجاءَ حياة يُخيم عليها السلام والسعادة والرفاه والرجاء، وكلّما زاغوا عن وصايا يسوع هذه، تخبّطوا في المشـاكل والمآسي والحروب والمنازعات.
المسيح رجاؤنا في الحياة الأبدية
عبّر الفيلسوف عمّانوئيل كانْت في غروب حياته، عن التسـاؤلات التي يطرحهـا كل إنسان آتٍ إلى هذا العالم، وليس في إمكانه التهرب من طرحها على نفسه : ماذا هو مصير حياته الأرضية ؟ ما الذي ينتظره حينما يبلغ خاتمتهـا ؟ ؛ وقال كانْت : ” ما الذي نتمكن أن نرجو الحصول عليه ؟ “.
لا شك ان حياتنا الأرضية خاضعة لخبرة الزوال، ولكنهـا في الوقت عينه تتوق إلى مـا هو دائم، إلى الأبدية ؛ فكل اختبـار للسـعادة على هذه الأرض، هو وعد بسـعادة دائمة، فالإنسان لا يجد ملء اكتمال رجائه في ما يتسـم به الزمن الأرضي من زوال، إنما في الحيـاة الأبدية لدى الله كمـا يقول القديس بولس : ” إن الشدة الخفيفة العابرة تُعِدُّ لنـا قدْرًا فائقًا أَبديًا من المجــد، فاننـا لا نهدف إلى ما يُرى، بل إلى مـا لا يُُرى، فالذي يُرى انمــا هو إلى حين، وأمـــا مـا لا يُرى فهــو للأبــد “ (2 قورنتس 17/4) ” ونحن نعلم أنه إذا هُدمَ بيتنا الأرضي، وما هو إلاّ خيمة، فلنا في السـماوات مسكن من صنع الله، بيت أبدي لم تصنعه الأيدي “ (2 قورنثس 1/5).
لا يقتصر رجاؤنا بالمسيح في هذه الحياة الدنيا فقط، بل يكتمل رجاؤنا بيسوع في الحياة الخالدة، كما يؤكد القديس بولس : ” إذا كان رجاؤنا في المسيح مقصورًا على هذه الحياة، فنحن أَشقى الناس أَجمعين “ (1 قورنتس 19/15).
إن الرجاء الأكيد لقيامتنا يستند إلى قيامة المسيح نفسه، كأخ بِكْرٍ لإخوته الذين يموتون، كمـا يقول القديس بولس : ” إن المسـيح قد قـام من بين الأمـوات، وهـو بكر الراقدين…. فكما يموت جميع الناس في آدم (أي كأبناء آدم)، فكذلك سيحيون جميعًا في المسيح، كل واحد حسب رتبته، فالبكرُ أولاً وهو المسيح ثم الذين يكونون خاصة المسيح عند مجيئه “ (ا قورنتس 20/15-23).
إن قيامة المسـيح شاهد أسمى لقدرة الله، والضمان الأكيد لمواعيده السنية. إن ما بدأه وأنجزه في المسـيح، سوف ينجزه فينا، إذا ما مُتنا مع المسيح كما يقول القديس بولس : ” نحن نؤمن بان يسوع قد مات ثم قام، فكذلك سينقل الله، بيسوع ومعه، أولئك الذين ماتوا “ (1 تسالونيقي 14/4).
كما أن يسـوع انتقل بقيامته المجيدة من الحالة الأرضية إلى حالة المجد الأبدي، كذلك ينال الإنسان في القيامة كيانًا جديدًا وممجدًا، كمـا يقول القديس بولس : ” …اننا نتبدّل جميعًا، في لحظة وطرفة عين… يقوم الأموات غير فاسدين ونحن نتبدّل. فلا بُدَّ لهذا الكائن الفاسد أن يلبــس مـا ليس بفاســد ولهـذا الكائن الفاني ان يلبس الخلــــود “ (1 قورنتس 51/15-53).
رجاؤنا بالمسـيح يجعلنا أن نتطلع إلى عالم جديد خالد وسعيد، كما يقول القديس يوحنا : ” هوذا مسـكن الله مع الناس. فسـيسـكن معهم وهـم سـيكونون شـعوبه وهو سيكون ” الله معهم “، وسـيمسـح كل دمعةٍ من عيونهم، وللموت لن يبقى وجود بعد الآن، ولا للحزن، ولا للصــراخ ولا للألم لن يبقى وجـود بعـد الآن، لأن العــالم القديــم قــد زال “ (رؤيا يوحنا 3/21-4).
(1) KOBERT R. Sabra taba im syrischen Tatian Lk 2/14 : Biblica 42 (1961) 90-91