القراءات الكتابية الطقسية

الحزنُ بحسب الله (58)

الحزنُ بحسب الله
الاب البير هشام نعوم  
الأحد الثالث من الصيف
فإِذا كُنتُ قد أَحـزَنتُكُم بِرِسالَتي، فَما أَنا بِنـادِمٍ على ذلِك، و إذا نَـدِمتُ – وأَرى أَنَّ تِلكَ الرِّســالَةَ أَحزَنَتْـكُم ولَو حِينًا – فــإِنِّي أَفرَحُ الآن، لا لِمـا نالَـكم مِـنَ الحُـزْن، بـل لأَنَّ حُزنَـكُم حَمَلَكُم على التَّوبَة. فقَد حَزِنتُم لِلّه، فلَم يَنَلْكُم مِنَّا أَيُّ خُسْـران، لأَنَّ الحُـزْنَ للهِ يُورِث تَوبَةً تُؤَدِّي إلى الخَلاص ولا نَدَمَ عَلَيهـا، في حِينِ أَنَّ حُزنَ الدُّنْيـا يُورِثُ المَوت. فانظُروا ما أَورَثَكم هـذا الحُزنُ لِله : فـأَيُّ حَمِيَّةٍ، بـل أَيُّ اعتِذارٍ وغَيـظٍ وخَـوفٍ وشَـوقٍ وَنخْوَةٍ وعِقـاب ! وقَـد بَرهَنْتُم في كُلِّ شَيءٍ على أَنَّكُم أَبْرِياءُ مِن ذلِكَ الأَمْر. فإِذا كَتَبتُ

) الإطار التاريخي الذي ورد فيه نـــــَص (2 قورنتس 8/7 -13)
كتَبَ بولس هذه الرسـالة الثانيـة في فترةٍ توترتْ علاقتُـهُ مع أهل كنيسـة قورنتس، تلك الكنيسـة التي أسّسـها وكوّن فيها جماعـة نشطة تقيّة خلال السنة ونصف السنة التي عاشها معهم هناك. أمّا سببُ التوتر في العلاقة فكان أن بعض أعضـاء الكنيسة ابتعدوا عن الإيمـان الحقيقي، وقاموا بهجومٍ شديدٍ على بولس، وأنكروا أصـالةَ وحقيقةَ أن يكونَ رسولاً لأنه لم يرَ المسـيح في حياته كما رآه بطرس ويوحنا مثلاً. وكردّة فعلٍ لهذا الهجوم، دافع بولس عن نفسه، وعن عمله الرسولي، من خلال وصف الآلام والصعوبات التي تحمّلها من أجل إيصال رسالة المسيح. واستخدمَ معهم أسلوب الشدّة في كلامه، لكنه أظهر من جهةٍ أخرى، ميله العميق إلى المصالحة معربًا عن فرحه العظيم في حالِ تحقيقها. ولذلك نلاحظ أنه يمزج، في أسـلوب كتابته لهذه الرسـالة، بين المحبة والتوبيخ، الغضب والحنان، وهمُّهُ الوحيد هو وحدة كنيسـة قورنتس والعمل من أجل بنائهـا. من هذا الإطار التـاريخي يمكننا أن نفهـم كلام بولس في هذا النَص عن الحزن الذي أحزنَ به أهل قورنتس، وأدّى بهم إلى التوبة.
2) التحليل الكتابي – البيبلي
يركّز بولس في هذا النَص على الحزن الذي سـبَبتْه رسالتُهُ لأهل قورنثس، وهو يقصد بالرسالة، تلك التي كتبها والدموع في عينيه، بسبب الإهانة الشديدة التي لقيها من أحد أبنائه المعارضين له. وهو يشير إلى ذلك في الرسالة ذاتها قـائلاً : ” ففـي شـدّةٍ عظيمة وضـيقِ صـدرٍ كتبتُ إليكـم والدمـوعُ تفيـضُ مـن عينيّ، لا لأسـببَ لكم غمًّا، بل لتعرفـوا مبلغَ حبّي العظيـم لكم “ (4/2). ولكنّـه يميّز هنا بين نوعين من الحزن : الحزنُ بحسب الله، والحزنُ بحسب الدنيا. الحزنُ الأول يؤدي إلى التوبـة، وهذا ما جعل بولس غيرَ نادمٍ على ما فعله مع جماعة قورنتس، إذ علم بأن حزنهم هذا سـيؤول بهم إلى التوبة والرجوع إلى الله. أمّا الحزنُ الثاني فلا يجني منه الإنسان ثمرًا غيرَ العذاب والرجوع إلى الوراء، فلا بدّ من إبعـاده عن القلب والروح : ” لأن الحزنَ لله يُورثُ توبةً تؤدّي إلى الخـلاص ولا ندَم عليهـا، في حين أن حزنَ الدنيا يورثُ الموت “ ( آ 10). وهذه التوبة لم تُرجِع علاقة أهل قورنتس مع الربّ فحسب، بل أعادت أيضًا العلاقة مع بولس من خلال المصـالحة معهم والتي كان الرسـول يريدهـا من كل قلبه، وهـم بدورهم عـادوا إلى مشاعرهم ونظرتهـم الطيبة تجاهه، وهو كان واثقًا من هذا، إذ سبقَ وقال لهم : ” قد قلتُ لكم من قبل إنّكـم في قلوبنا على الحياة والموت. لي ثقةٌ كبيرة، وأنـا عظيمُ الأفتخـار بكم. قد امتلأتُ بالعزاء وفاضَ قلبي فرَحًا في شدائدِنا كلّها “ (3/7-4).
3) الإطار الليتورجي
أ) علاقة هذا النَص مع النصوص الأخرى
تُقرَأُ على مسـامعِنا في هذا الأحد الثالث من زمن الصـيف من العهد القديم، قراءةٌ أكثرَ من رائعة، من سفر (أشعيا 1/5-7)، تتضمنُ نشيدًا جميلاً ألفهُ أشعيا في مطلع رسالته النبويّة، وهو بعنوان ” نشيدُ الكرم “. ينشدُ فيه نشيد محبوبه لكرمِهِ، ويصفُ فيه عناية حبيبه الكبيرة به. إلاّ أن الكرم لم يُثمرُ عِنبًا كمـا كان مُنتظرًا منه، بل حصـرمًا برّيًا ! مما جعل الحبيب يشـتكي مؤكّدًا اهتمامه الفائق بكرمِه وعدم تقصيره في عملِ أيّ شيءٍ له. ويُعلمنا بما سيعمله بكرمه : سيزيل سياجَه ليصيرَ مرعىً، ويهدمَ جداره ليصـير مداسـًا، ويجعله بورًا لا يُقضَـب ولا تُقلَع أعشابه فيطلعُ فيه الحسَكَ والشوك، ويوصي الغيوم ألاّ تُمطرَ عليه مطرًا. هذا هو حالُ بني اسـرائيل مع الربّ إلههم، فهم كرمُهُ، وقـد انتظرَ الحقّ منهم، فلمْ يلقَ سـوى سفك الدماء، والبرّ فإذا الصراخ. ألا تنطبقُ هذه المقارنة على العلاقة بين بولس وأهل قورنتس ؟! تحمّل الرسول الصعوبات الجمّة والآلام القاسية في سبيل إيصال رسالة المسيح إلى أهل قورنتس، وانتظرَ منهم أن يثمروا ثمارًا تدلّ على إيمـانهم وثباتهم في المسـيح الذي آمنوا به. ولكنّهـم، عكس ذلك، انقلبوا عليـه وطعنوه في قلب حياتـه الرسوليـة، واتّهموه بأنّه ليس رسـولاً حقيقيًا. هو الذي اعتنـى بهم ورعاهم ولم يقصّر بشيءٍ معهم، بل قدّم نفسه للموت وللعذابات من أجلهم ؛ فجنى منهم بالتالي حصرمًا بريًّا، لا عنبًا.
مع ذلك، يشـير العهد القديم بمجمله إلى حقيقـةٍ واضحة، أن الربّ لن يزل يحبّ شعبـه ويعتني به على الرغم من عدم أمانـة الشعب في إعطـاء الثمـر والبرهنـة على تمسّكهم بإلههم. وهو غفورٌ، يغفرُ لشعبه خطايـاهم ويعيدُهم إلى العلاقة معه ليواصلوا المسيرة في طريق الخلاص. إنّ قلبَ بولس المليءَ بالحزن من جراءِ أبناء كنيستـه، مليءٌ بالحبّ أيضًا تجاههم وبالاستعداد الدائم للمصالحة معهم : ” فإذا كتبتُ إليكم، فإني أفعلُ ذلك لا من أجل الظالم ولا من أجل المظلوم، بل ليتّضـح لكم أمـام الله ما أنتم عليه مـن الحِميَّة لنـا “ (2 قور 12/7)، كمـا يكتبُ أيضًا في مطلع الفصل الثاني من الرسالة ذاتها : ” فإذا سببتُ لكم الغمّ، فمَن يجلبُ إليّ السرورَ إلاّ الذي سببتُ له الغمّ ؟ “ ( آ 2).
لم يُخطِئ الأعمى منذ ولادتـه، ولا أبواه، فوُلِدَ فاقدًا بصرَه، بل لتظهرَ فيه أعمـالَ الله. هـذا هـو ملخّص جواب يسـوع لتلاميذه الذين كـانوا يربطون المرض والألم بالخطيئة، فاستفسروا عن هذا الربط سـائلين معلّمهم عمّن يكون مصدرُ الخطأ في حالةِ هذا الرجل، هو أم أبـواهُ ؟. لكن يسوعَ لا تلهيه معرفةُ تفاسـير المرض والألم عن العمل مـن أجـل المريض والمتـألم، فشـفى هـذا الأعمـى معيـدًا إليـه نعمـة البصـر (يوحنا 1/9-38). وليس التلاميذ وحدهم مَن أهملوا هذا الرجـل المسكين، بل حتّى أبوا الأعمى ذاته، إذ تهربا من مسؤوليته خوفًا من طردهما من المجمع متحججين ببلوغه سنّ الرشـد. وكذلك الفريسـيون الذين كانوا ينتظرون اقتنـاص الفرصة المناسبة للتخلّص من يسوع، استخدموا هذا الرجل الأعمى ليؤكّدوا اتّهامهم ليسوع بأنه رجلٌ خاطئ. ولكن إيمان الأعمى ” المبصر “ كان أعظم من تجاهل الجميع له. إذ عبّر بعد طـرده من قِبَل الجميع، عن إيمانـه بابن الله قائلاً له : ” آمنتُ يا ربّ “ ( آ 38). لقد قلبَ يسـوع حزنَ الأعمى نتيجـة فقدان بصـره، إلى فرحٍ ورجـوعٍ أعمق إلى الله أكثر من ذي قبل. إذ لم يمنحـهُ الشفاءَ الجسدي بإعادة نظره فحسـب، بل فتح عيني الروح فيه ليؤمن بالله، فبدأ ينظـرُ إلى حزنه الذي سببه فقدان بصره على أنّهُ فرصةٌ للقاء ابن الله ونيل الحياة من خلاله والرجوع إلى الربّ بواسطته. فكان حزنُهُ، على حدّ تعبير بولس، بحسب الله، يورثُ الحياةَ، وهذا الحزنُ يستحقّ تمجيد الله على عظائمه.
ب) علاقة هذا النَص بالصلاة الطقسيّة
تمتاز الصـلوات الطقسيّة في زمن الصيف بدعوة المؤمن إلى التوبة والرجوع إلى حضن الله الآب الذي ينتظره بكلّ شوق ليغفر له ذنوبه وخطاياه. ومن ضمن الصلوات الرائعة التي تُتلى في هذا الأحد الثالث من هذا الزمن، صـلاةُ القانون (قنونا). نتـرجمُ هنا نَصّهـا، داعين قرّاءنا الكرام للتأمّل في كلماتها الجميلة (كتاب الحوذرا، المجلّد الثالث، ص قؤى، 195) :

تعـالوا نطلبُ بالدمـوع الحزينـة غفران الذنوب، وندعو كلّ حينٍ المراحـمَ الفائضة لترحم طبيعتنا. يا ربّ اغفر لنا بنعمتك وترحّم علينا.
أيهـا الآب الرحوم ترحّم عليَّ لأنّي أخطـأتُ إليك. ونفسـي من داخل بحر الذنوب !. فأنتَ بحرُ الحنان وغافر الذنوب.
علـى باب ختام حياتِكِ أيتها النفس قمتـي ! وقرّبي التضرّع والدموع التي تستحقُ التوبة. فاحصُ القلوب والكلى ! بالرحمة والنعمة.

لا تذكرُ صلاتنا الطقسـيّة الدموع المعبّرة عن الحزن أو الخطايا والذنوب إلاّ وتربطهـا برحمة الله الواسعة وغفرانه اللذين لا تحدّهمـا حدود. فالإنسـان الذي يتوب ويطلب غفران الخطايـا من ربّه، لا يقف عند التندّم على ما ارتكبـه من خطايا وذنوب وآثام معبّرًا عن ذلك بدموعٍ وحزنٍ، بل يتعدّى ذلك الشعور ليعبر به إلى محبّة الله التي ترحمه وتنسى خطاياه وتضمّه إلى حنانها الأبوي.
4) رسالة هذا النَص لعالمنا المعاصر (تأوين)
يحملُ إلينا هذا النَص رسالةً رائعة تتمثلُ في التمييز، كمؤمنين، بين الحزن الذي يأتينا من العالم، والحزن الذي يلقانا في مسيرتنا مع الله أبينا. فعلينا ألاّ

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى