التبرير بواسطة الإيمان المقرون بالأعمال الصالحة (35)
المطران ابراهيم ابراهيم
قراءة اليوم الخميس الرابع من الصوم الكبير
” ماذا نقولُ إِذَن، إِن الأُمم الَّذين لم يسعَوا في طَلبِ البِرّ، أدركوا البِرَّ وهو البِرُّ الذي من الإيمان، أَمّا إسرائيلُ الّذي كان يسعى في طَلبِ البِرّ من الشريعة فإنه لم يدرك البِرّ، لأنه لم يطلبه من الإيمان بل من اعمال الشريعة (النَّامـوس) فعثَروا بحجر العَثْـرَة كما هو مكتـوبٌ : ها إني واضِـعٌ في صهيونَ حجرَ عثرةٍ وحجرَ شكّ، ومن يُؤمنُ بهِ لا يُخزى “ (1 بطرس 6/2-8).
فقد وَرَدَ في الكِتاب ” هاءَنَذا أَضَعُ في صِهْيون حَجرًا للزَّاويةِ مختارًا كريمًا، فمَن اتكَلَ علَيه لا يُخْزى “ (اشعيا 16/28).
(رومة 30/9-33)
إن هذا المقطع يختم الفصل التاسع من رسالة مار بولس الرسول إلى جماعة كنيسة رومة، ومن يتصفح ويقرأ هذا الفصل يخلص حتما إلى ما خلص إليه مار بولس الرسول ليقول لبني شـعبه إسـرائيل إنهم لم يبلغوا بِرّ الله لأنهم أرادوا ان يحصلوا عليه من خلال الشريعة التي اعطاهم إياها موسى، أي من خلال تكملتهم الحرفية للشريعة بدون الدخول إلى فحواها وغايتها الحقيقية التي كانت المسيح.
يتكلم مار بولس في الفصل التاسع من رسالته إلى اهل رومة اولاً عن اختيار بني إسرائيل، الذين كان لهم التبنّي والمجد والعهود والشريعة والمواعد والآباء ومنهم المسيح (4/9-5) إلا ان إسرائيل لم يكن بمستوى مهمّته أي ان يكون مثالاً للأمم في الإيمان، لذلك فقد امتيازاته كشعب الله المختار ومن ثم وُجّهت الدعوة إلى الإيمان بواسطة بولس الرسول ورفاقه إلى سائر الأمم ليؤمنوا بالمسيح وينالوا ” التبنّي والمجد “ عوض إسـرائيل الجسـدي، وبهذا لم يكن الله ظالمًا لإسرائيل، لأن الله حر مطلق في عطائه، والإيمـان به ليس مرتبطًا بإسـرائيل ” فهو يرحم من يشاء ويقسي قلب من يشاء “ (18/9). وكما جاء في سفر هوشـع النبي ” من لم يكن شعبي سأدعوه شعبي “ (25/9). وهكذا نصل إلى نهاية الفصل التاسع وهو المقطع الذي نحن في صدده.
كان في إمكان إسرائيل ان يبلغ بِرّ الله لو كان قد فهم وكمّل الشريعة بحسب منظور الله وخطته، فالشريعة كانت مرحلة المسـيح والإيمان به وبالتالي الحصول على بِرّ الله من خلال قبولهـم مسـيح الرب، إلا ان إسـرائيل لم يرد ان يتجاوز تكميل الشريعة مكتفيًا بالحفاظ على ما تفرضه الشريعة من كل اسرائيلي، وبالتالي اصبحت الشـريعة غايـة بحد ذاتها، ولم توجّه الإسـرائيلي المؤمن إلى المسـيح والإيمان به، فاصبحت حجر عثرة له.
من الضروري ان نعرف ماذا يقصد مار بولـس بالتدبيـر في هذا المقطـع (من أجل معرفة المفهـوم الكاثوليكي للتبريـر يمكن للقارئ ان يراجع الأعـداد 1987-1995 من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية).
التدبير عند مار بولس هو ان الشخص الذي يعتمذ، وبالتالي يموت مع المسيح فانه يتطهـر من خطايـاه ويضحى ميتا للخطيئـة، وحيـا لله بيسـوع المسـيح (رومة 8/6-11). فالإنسان ينال التبرير بالعمـاذ الذي هو ولادة جديدة، خلقة جديدة واشتراك حقيقي في حياة الله. إذن موت المسيح على خشبة الصليب حيث قدّم ذاته ذبيحة مقدسة مرضية لله، ودمه صار اداة تكفير عن خطايا جميع البشر، منح التبرير للذين يؤمنـون به. إضافةً إلى ما جاء في رسـالة يعقوب الرسول 24/2 ” إن الإنسـان يبرّر ليس بالإيمـان وحـده ولكـن بالأعمال يبرّر “ فالأعمال التي يتكلـم عنهـا مـار يعقوب ليسـت الأعمـال التي يتكلم عنها مار بولس، فمار بولـس يتكلم عن أعمال تكميل الناموس، أي الأعمال التي تسـبق التبرير. فهذه الأعمال لا يمكن ان تمنح الإنسـان التبريـر، أمـا يعقوب الرسول فكلامه موجّـه إلى المسـيحيين الذين قد تبرروا بالإيمان بيسوع، لأن الإيمان بدون الأعمال هو إيمـان ميت، لأن الإيمان والأعمال لدى الشخص الذي نال التبرير يجب على أعماله ان تعبّر عن إيمانـه، اي لا يكفي للمؤمن ان يكتفي بالإيمـان فقط، بل يجب ان تصاحبه أعماله الصالحة.
بكلمة اخرى إن بِرّ الله يعني تحقيق محبة الله المعطاة مجانًا للخطأة ليصيروا بررة أي إخوة ليسوع المسيح وأبناء ميراث الرب.
وهنا يخطر على بالنا مسـألة الفرق بين المفهوم الكاثوليكـي للتبريـر – كما شرحناه آنفًا – والمفهوم الپروتستانتي لهذا التبريـر. إذ إن مفهوم التبريـر صار سببًا لانشقاق كبير في الكنيسة الغربية في ايام لوثير وكالفن والذين تبعوا آراءهم في تفسير رسالة مار بولس إلى أهل رومة بخصوص التبرير.
ان الخلاف بين الكاثوليك والمصلحين الپروتستانت، لوثير واتباعه، يخص مفهوم النعمة الإلهية التي يعطيها الله للإنسان، وموضوع أعمال الإنسان ” في تبريره أمام الله وحصوله على الخلاص “.
اللاهوت الپروتستانتي يقول إن طبيعة الإنسـان فسدت بسبب الخطيئة الاصلية ومن ثم فلا وجود لحرية الإنسـان في اختيار الأعمـال الصالحة، فنعمة الله هي التي تبرر الإنسـان، وهي التي تعمل فيه الأعمـال الصالحة، وبالتالي فالإنسـان المبرّر يبقى خاطئًا، لأن النعمـة لا تدخل في صميـم كيانه، فالإنسـان البار هو الإنسان الذي لا يحسب الله خطيئته. فبحسب لوثير، الإنسان هو خاطيء وبار في آن واحد معًا.
مع ذلك فالمصلحون اكّدوا أن الإيمان يجب ان يُقرن بالعمل، إلا ان الخلاص الأبدي لا يحصل عليه الإنسـان نتيجة أعمال صالحة يقوم بها، إنما الخلاص هو نعمة مجانية من الله (هنا لا بدَّ من التمييز بين التبرير الذي هو نعمة مجانية من الله وبين الخلاص الأبدي الذي تقتضيه الأعمال الصالحة من قبل الإنسان).
أما المجمع التريدنتيني في دورته السادسة 13/ كانون الثاني /1547، فيعلّم انّ التبرير يمنحه الله للإنسان باستحقاقات يسوع المسيح، وبقبول الإنسان لهذه النعمة. أما الخلاص، فالإنسان يُسهم فيه بأعماله الصالحة، وعليه فالإنسان عندما يحصل على التبرير لا يفقد حريتـه، برغم ان النعمة الإلهيـة تبرره في صميـم كيانه، ويصبح إبنًا لله بالتبنّي ووارثًا للحياة الأبدية.
فالفرق واضح جدًا بين المفهومين ونختصره هكذا :
الكاثوليك
– بالخطيئة الأصلية فقد الإنسان حالة النعمة.
– يبقى الانسان محافظــًا على حريته في القبـول أو الرفض.
– التبرير نعمة مجانية وبمبادرة من قبل الله.
– بالتبرير الإنسان يصبح إبنــًا لله وأخـًا ليسوع المسيح.
– لا بد من أعمال صالحة ليحصل الإنسان على الخلاص الذي استحقه لنا المسيح بموتـه وقيامته.
الپروتستانت
– الخطيئة الأصلية افسدت الطبيعة الإنسانية.
– يفقد الإنسان حريته تمامًا بسبب فساد طبيعته.
– التبرير نعمة مجانية وبمبادرة من قبل الله.
– بالتبرير يصبح الإنسان ابنـًا لله واخــًا ليسوع المسيح لكنه يبقى خاطئــًا، انما الله لا يحسـب لـه خطيئة.
– أعمال الإنسـان هي أعمـال خاطيء لا قيمـة لها، فالخلاص هو نعمة
اما إذا بحثنا عن سبب وضع هذا الفصل لقراءة المؤمنين خلال الخميس الرابع من الصوم الكبير، ففي اعتقادي إن هذا الاسـبوع هو اسـبوع حاسم بالنسبة إلى المؤمنين، وخصوصًا بالنسبة إلى الذين كانوا يتهيأون لقبول المعموذية يوم سـبت النور، ولا بد ان يعرفوا جيدًا حقيقة ما هم مقبلون عليه.
في حين إن قراءات الاسبوع الأول هي الفصول الأولى من رسالة مار بولس إلى أهل رومة وهي كما يأتي :
– الثلاثاء : موقف المؤمن من الله، – الأربعاء : مسؤولية الشعب اليهودي.
– الخميس : الناس والناموس، – الجمعة : اليهودي، – السبت : الناموس.
حيث يكلّمنا فيها عن مسؤولية الشعب اليهودي في خطّة الله، وعن موقف الناس من الناموس ومن يسوع المسيح.
وفي الاسـبوع الرابع يكلّمنا عن ماهيّة التبرير وكيف ان الله ليس بظالـم، إذ دعا الأمـم إلى الاشـتراك في خيراته ونعمه، لأنه أب رحوم أرسـل إبنه ليجد الخلاصَ من يؤمن به.