البِـرّ من الإيمان لا من الشريعة (39)
الاب بول ربان
قراءة قداس الأحد الثاني من الصليب/الخامس من إيليا
(3)لأننا نحن، إنما نعبد الله بالروح، ونفتخر في المسيح يسوع. ولا نعتمد على أمور
الجسـد، (4)مع أن من حقي، أنا أيضًا، أن اعتمد عليها… (7)ولكن مـا كان لـي في
ذلك من ربـح، اعتبرتـه خسـارة من اجل المسيح. (8)إني اعتبر كل شيء خسارة،
– ليكن شغلكم الشاغل كل ما هو حق
الرسالة إلى أهل فيلبي، كتبها بولـس وهو تحت القيـود (1/7 و12-17)، يعبر فيها عن مشاعره الخاصة تجاههم، دليل علاقة مميزة، فيثني على سخائهم (5/1، 16/4)، يحذرهم من الأشرار عمال السوء (2/3)، ومن أعداء الصليب (18/3) ثم يدعوهم إلى عدم الاعتماد على المجد الباطل والاعتبارات البشرية (3/3-8) والرسل المزيفيـن (15/1-18). ويطالبهـم بالتحلي بالأخلاق المسـيحية السـامية (8/4-9)، لا سـيّما إلى إزالة الخلافات (2/4-3) وتحقيـق الوحدة في الفكر والقلب والفعـل والجهاد (27/1 و1/2-4) وإلى الفرح الدائم بقوة المسيح (1/3 و4/4). وأخيرًا أن يسهروا على خلاصهم بخوف ورعدة (12/2).
2 – عرفت المسيح وعرفت قوة قيامته
يبين بولس أن يسوع مركز الحياة والخلاص. يؤكد أن لا طريق للحياة والحق بغيره، والامتثال به كليًا يضمن حياة المؤمن. ويقول بأن حرف الشريعة لا ينفع. لا بل حتى شريعة موسى تعطلت إزاء الشريعة الجديدة الإلهية، اتى بها المسيح شـريعة الـروح (روم 4/8 و2 كور 6/3). الله روح وحيـاة (2 كور 17/3 ويو 24/4) وكذلك كلامه (يو 63/6). والإنسان الذي يسمع كلام الله يجب أن يتحرر من شريعة الحرف ومن حرف الشـريعة القاتل (2 كور 6/3) ليتمسك بروح الله وبقوته (يو 24/4) فهو الذي يحيي (يو 63/6). ويشدد الرسول على نقاط مهمة، هي :
أ- عبادتنا هي روحية :
علاقتنا بالله، صلاتنـا، تسـبيحنا يجب أن يصدر عن الروح. أي لا تكـون حرفية، ثمرة تلاوة رتيبة للصلوات، وتكون حياتنا خاضعة لمشيئة الله، وتصرفاتنا شعلة من الحق والبر، وأن البر في طاعة الله (أع 19/4). يؤكد بولس أننا نسير على خطى يسوع ولا سـبيل لنا غيره (فل 5/2 و8) فنضاعف طاعة الله (فل 12/2) اقتداء به حتى يقوم برنا على الله نفسـه وترفعه إليه أعمدة الإيمـان، فنتمثل كليا بالمسيح لنشترك معه في ميراثه (روم 1/6-5).
ب- غايتنا أن نعرف المسيح :
يعتبر الرسول معرفة المسيح اكبر كنز وأعظم امتياز. أي أن نعرفه على حقيقتـه، كما يعرفنـا هو (1 كور 12/13). فلا تقف على ظواهـر أحداث حياتـه التاريخيـة، معلومات نخزنها في حاسـوبنا ! المعرفة الكمية قد تنفخ ولا تبنـي. المعرفة النوعيـة هي تبني. ” من ظن انه يعرف شـيئًا فهو لا يعرف بعد كيف ينبغي له أن يعـرف. لكن من احـب الله فهو الذي عرفـه الله “ (1كور 1/8-3). لاحظوا الترادف بين ” احب “ و” عرف “. عرف يعني، في لغة الكتاب، بنـاء علاقات حميمـة خاصة قائمـة على المحبـة (تك 1/4 و25 ؛ متى 25/1). ومعرفة المسيح تعني محبته وإدراك عمق شخصه ورسالته، وتمييز مشيئته، وتقييم تعليمه بحيث يصبح يسوع لنا كنزًا وجوهرة نتنازل، لأجل اقتنائها، عن كل شيء ونطلب ارضاءه وكسب ثقتـه واقتناء صداقتـه. نعتبر اقتناء العالم كله وكل الاعتبـارات الإجتماعية وكل كراماته وامجاده وعلومه وقواته خسارة، ولا شيء مقابل يسوع. معرفتنا له ومحبتنـا ترفعنا إلى مستواه، نصير واحدًا معه، نذوب فيه فيصير هو حياتنا (غل 27/3). ” فينا “ يتعرف الناس إليه وبه تقوم حياتنا (كو 2/3-3). معرفة المسـيح تعني أن نتجدد باستمرار على صورة الله (كو 10/3 ؛ أف 22/4-23) لأننا لما عرفناه لبسناه كما لبسنا هو (غل 27/3) ونسعى لامتلاكه كما امتلكنا (فل 12/3). عندئذ نختبر قوة محبة المسيح ” التي تفوق كل معرفة “ وتتسع ” لكل ما عند الله من سعة “ (أف 19/3). معرفة المسيح هي إحدى عطايا قيامتـه (1 كور 8/12-11) تجعلنا نعرف كل الناس بعيونـه ونتعامل معهم بفكـره وقلبه، لأننا خليقـة جديدة (2 كور 11/5-17)، لا نتبع بعد روح العالم (غل 9/4).
تهيئنا معرفة المسيح ومحبته لمشاركة آلامه، أي قبول الضيق والاضطهاد من اجل الحق والبر، والموت معه أي قبول تحدي الشر والظلم وعدم التراجع، وبلوغ القيامة معه (فل 10/3-11) فالانتصار على إبليس ووحوشه، ونيل ما لا نتوقعه أو نتصوره (أف 20/3-21) لأن المسـيح يعمل فينا ونحن نعمل أعماله، وأعظم منها (يو 12/14) كما حدث للرسل (أع 15/5 و11/19-12).
ج- البر الآتي من الإيمان :
ثم يتطرق بولس، في كلامه، إلى الشـريعة وأعمالها والإيمان وثماره ويقول إن بِرّه لا يأتي من ذاته بل من الله الذي وثق به وآمن انه قادر على إنجاز وعوده. إنه بار لإيمانه بالمسيح لا لسبب خضوعه للشريعة مثل الفريسي (لو 11/18-12). الله هو يعلنه بارًا، لانه مؤمن ويحيا إيمانه مثل إبراهيم (روم 9/4 و18-22 ؛ غل 6/3 و18).
كل عمل لا يصدر عن الإيمـان لا قيمة له ولا ينفـع. كذلك الإيمان النظري وحده لا يكفـي ولا يبنـي. معرفة الله ومحبته تتجلّيان في الأعمـال (1 يو 3/5). يختصر بولس فكره : ” القيمة هي للإيمان العامل بالمحبة ” (غل 6/5). ويصور الأمر يعقوب في حقيقة مماثلة ” الإيمـان بلا أعمال ميت “ (يع 26/2). لا يكتمل الإيمان إلاّ بالأعمال : ” إبراهيـم بُرر بالأعمـال “ لان إيمانه دفعـه إلى الثقة والطاعة. كل إيمان بدون أعمال المحبة يشبه ” إيمان الشياطين “. ولا تتبرر إنْ بنيتَ أعمالاً بلا إيمـان، ” أُريك إيماني بأعمالي “ (يع 18/2-22). فالإيمـان ليس معلومات ندركها ونخزنها بل حياة نحياها، والحيـاة جملة سلوك وأعمـال نؤدّيها عن مبدأ وبهدف.
3 – الإطار الطقسي
ان الصلوات الطقسية، لا سيّما في أعياد الفصح وسابوع القيامة، تؤكد لا على التعليم فقط، بل وتشدد على ان آلام المسـيح وموته وقيامتـه غيرت جذريًا حياة البشـرية، وقلبت وضعها من عدوة الله، تمزّقها قيود إبليس وتتمرغ في الضلال، سائرة نحو الهلاك، إلى انتصارها بالمصلوب على الموت (حوذرا 465/2) وتحريرنا من الخطيئة ورفعنا من سقطتنا.
4 – أريك إيماني بأعمالي
شبّه يسوع حياة الإنسان بشجرة، فيها الجذع والغصن والثمر (يو 1/15-8). الغصن يحمـل الثمـر وهو نابت على الجذع وثابت فيه. والجذع يوفّـر الحيـاة ويضخّهـا لكل أجزاء الشـجرة. وبين الأجـزاء تعـارف وتآلف، كالقرص مـع الحاسوب، واتحاد عضوي حيوي، وتناغم وتعاون : والنتيجة ثمر ينفع الإنسان. وقد ييبس غصن أو لا يثمـر لسوء ارتباطه بالجذع. كذلك الإنسـان غصن في شجرة الحيـاة، مرتبط بالجذع (الله) ويجب أن يثمر (الأعمال) وألا يكون قاصرًا فيُقطع. كل إنسان مطعم في الله، وهو جذع حياته ومصدر ثماره. والإيمان شريان الحياة الإلهية مغذّيه ومقوّيه حتى تتطابق حياته مع الله فيثمر المطلوب.
والإيمـان وحـده لا ينفـع (1 كور 2/13). ولا تبنـي محبـة محض كلاميـة (1 يو 16/3-18 و9/4) ما ينفع هو الإيمان العامل بالمحبة (غل 6/5) أي أن نصور ونشع المسيح بأعمالنا (2 كور 18/3 ؛ روم 29/8) فنتمثل باخلاقه، وتشرق فينا معرفة مجده (2 كور 6/4).
يتباهى العالـم بمنجزاته، أعماله العلميـة والاقتصاديـة، إنما ينقصه الإيمـان والمحبة. ويتباه