الإيمــان هبــة اللـــه المجانيـّــة (33)
المطران إبراهيم إبراهيم*
” فاني اقول لكم، يـا شـعوب الأمم، ما دمـت انا رســول الأمم فاني فخور في خدمتـي، لعلي أثير غَيرة الذين هم من لحمي ودمي، وأخلّص بعضا منهم، لانه إن كان رفضهـم صــار مصالحة للعالـم، فكم بالحـري يكون رجوعهم… فإن كانت بعض الأغصان قد فُســخت وانت الزيتونة البرية طُعِّمتَ في موضعها، فصرتَ شـريكا في اصل الزيتونة ودسمها، فلا تفتخر على الأغصان، لأنك لست انت تحمل الأصل، بل الأصــل يحملك… فإن كنت انت الزيتـون البرّي بطبعـك قد طُعِّمتَ في زيتونـة اصيلة على خلاف طبعك، فكـم بالحري اولئك يُطعَّمـون في زيتونتهم الطبيعية “.
نبذة عن الرسالة إلى اهل رومـة :
الكل يعلم ان رسالة مار بولس إلى اهل رومة لها أهمّية كبيرة لما تحويه من نقاط تخصّ العقيدة المسيحية، وقد نستغرب كيف ان مار بولس ارسل هذه الرسالة إلى كنيسة رومة بينما ليس هو المؤسس لهذه الكنيسة، في حين ان كل رسائله وُجّهت إلى الجماعات الكنسية التي اسسها هو نفسه او مع اشخاص آخرين، اما جماعة رومة، عاصمة الامبراطوية الرومانية، فتأسيسها لا يرجع إلى مار بولس، ولكن إلى مار بطـرس، الذي انتقـل من انطاكيـا إلى رومـة، حيث كان هناك جماعات مسيحية قد جاءت إلى رومة من انطاكيا ومن اورشليم ومن مدن اخرى، فيهم الأمميون وفيهم اليهود المتنصرون. هذا ما يمكن استدلاله من الفصل السادس عشر لهذه الرسالة، حيث يذكر مار بولس اشخاصًا عرفهم في رحلاته الرسولية وفي الامكنة التي اسس فيها كنائس، كما جاء في كتاب اعمال الرسل (2/18) حيث يذكر لوقا وجودَ ” أخوة “ في رومة حوالي سنة 50 في حين انه لا يذكر شيئًا عن نشأة الكنيسة في العاصمة الرومانية.
من ناحيـة اخرى، نعلم أنه في حوالي سنة 49-50 ميلادية أمر الامبراطور كلاديوس كل اليهود المقيمين في الامبراطورية ان يغادروها، سواء كانوا يهودًا ام متنصّرين (مسيحيين) وذلك بسبب الإضطرابات التي اثارها التبشير بانجيل يسوع المسيح بين اليهود وغيرهم. ويذكر لوقا في كتاب اعمال الرسل (2/18)، من هؤلاء أكيلا وامرأته برسـقلا اللذين غادرا رومة، وعادا إلى كورنتوس، وانضما إلى مار بولس، وحدّثاه عن وضع المسـيحيين في رومة، ولكن ما لبث ان اُلغيَ هذا الامـر، وعادت الامـور إلى ما كانت قبل تلك السـنة، وبالفعل عاد أكيـلا وبرسقلا إلى رومة (انظر رومة 3/16).
كان مار بولس يود ان يزور جماعة ” القديسين “ الموجودة في رومة، كما جاء في رسالته إليهم (11/15)، وكان يريد ان يقدم خدماته الرسولية للرومانيين، كما فعل ذلك مع اليونانيين والوثنيين وغيرهم.
إن ظروف كتابـة هذه الرسـالة، التي املاهـا مار بولـس على طرطيوس (22/16)، ليست واضحة جدًا، إذ ما نعرفه هو انه كان في كورنتوس بعد رحلته الرسـولية الثالثة، واراد مغادرة الشـرق ليبشـر في الغرب ايضًا، فكان قد قرر السفر إلى اسبانيا، راغبا في المرور برومة (19/15-20).
كُتبت الرسالة في بداية ربيع سنة 57 او 58، برغم كون مار بولس لم يكن له سلطة مباشرة على كنيسة رومة، ولم يكن يعرفها الا من خلال علاقاته الشخصية مع بعض المسيحيين هناك.
إستعراض معطيات المقطع الذي يُقرأ في أحد السعانين
من قراءة الفصل 13/11-24 نستدل على ما يأتي :
تذكير المسيحيين من الأمم ان لا يتكبّروا بإيمانهـم، وأن لا يحتقروا اليهود او غيرهم، وألاّ يأخذوا موقف الإزدراء او الاستعلاء.
وهذه القضيـة كانت المشـكلة الكبرى التي واجهت مار بولـس في حياتـه الرسـولية، إذ كانت الخطر الذي يهدد كنيسة المسـيح حديثة المنشأ، إذ اصبحت سريعًا معرّضة للإنقسام إلى جماعتين يهودية مسـيحية وريثة اليهودية، والاخرى جماعة الوثنيين المهتدين إلى المسيحية. (انظر مجمع اورشليم – اعمال الرسل، الفصل الخامس عشر).
أراد مار بولس ان يقدم حقيقة إيمانية أشغلته طيلة حياته الرسولية، وهي مشكلة اليهود ومكانتهم في التدبير الإلهي.
يؤكّد مار بولس أنّ الله لا يرجع عن وعده لشعبه، ويؤكد دورَ هذا الشعب في التدبير الإلهي (الخلاصي) لكن عصيان بعض رؤساء اليهود، وتمرّدهم على تعاليم المسيح، فتحا بابًا أمام غيرهم من الوثنيين.
الإيمـان موهبة مجانيـة من الله، يعطيهـا لكل انسـان – لليهود أولاً ثم لغيرهم. ويمكن للانسـان ان يقبل او يرفض هذه الموهبـة. فَرفضُ اليهود هذه النعمة أعطى فرصة فريدة لغير اليهود كي يدخلوا في الإيمـان. ولكن يبقى باب الإيمان مفتوحًا للجميع.
فلا بدّ ان كان هناك في رومة سنة 57-58 خطر كبير يهدد كنيسة رومة بانقسامها إلى شطرين : اليهود المتنصّرون من جهة، والوثنيّون المهتدون من جهـة اخرى، وهذه المشـكلة كانت من اختصـاص مار بولـس خلال رسـالته التبشيرية، فقد حاول ان يحمل الفريقين على ان يتقبّل بعضهم بعضًا، ودعاهم إلى إعطاء الاولوية لوحدتهم الإيمانية التي أساسها واحد : هو يسوع المسيح.
فاوصاهم مار بولـس قائلاً : ” إقبلوا بعضكم بعضًا، كما قبلكم المسـيح لمجد الله “ (رومة 7/15).
تحقيق فعلي لوعود الله لابينا ابراهيم الذي يمثّل جذع وأصل شجرة الإيمان بالله وبابنه الوحيد يسوع المسيح، وكل الاغصان التي يحملها الاصل تشترك في حياة الزيتونة ودسمها.
النص الكتابي في إطاره الطقسي
اما علاقة هذا النص البولسي بأحد السعانين بحسب الطقس الكلداني، فهي مبنية على النقاط الآتية :
موقف رؤسـاء اليهـود من يسـوع المسـيح حين دخوله اورشـليم، كان المفروض بهم ان يستقبلوه، ولكنهم رفضوه.
الاطفال الصغار الذين صاحوا بأعلى صوتهم ” مبارك الآتي باسم الرب، اوشعنا في الاعالي “.
شجرة الزيتون المذكورة في الرسالة والاغصان التي تحملها، منها طبيعية، ومنها مطعّمة، تمثّل اليهود والمسيحيين القادمين من الوثنية، إضافةً إلى ان الاطفال قطعوا أغصان الاشجار، وكانوا يرمونها تحت اقدام يسـوع حين دخوله الهيكل. لهذه الاسـباب ولغيرهـا فقد اختار آباؤنـا هذا النص لهذه المناسبة.
تأوين النص
اما العبرة التي يجب ان نأخذها من هذا النص، فهي ان الإيمان واحد هو، بغضّ النظـر عـن العـرق والنسـب والجنس، فلا أحد يستعلي على غيره، فكل المؤمنين أعضاء في جسد المسيح الواحد، ولا يجـوز لأي منهم – مهما كان اصله ونسـبه وجنسـه – ان يتعالى على غيره، لان الإيمان هو موهبة مجانية أعطاها الله للكل بفضل حياة وآلام وموت وقيامة يسوع المسيح، لكي يخلص الجميع ويجد الحياة كل من يؤمن به.
إننا اليوم نعيش في عالم تسوده الأنانية والغَيرة واستغلال الفقراء والمساكين في كل مكان. فنحن إذن في حاجة قصوى إلى تجديد إيماننا بالله، ومدعوون إلى تطبيق هذا النص في حياتنا اليومية لنعكس نور الإيمان من خلال أفعالنا وأقوالنا لنكون أولاد الله المخلَّصين والمبشّرين برسالته على الأرض.