القراءات الكتابية الطقسية

الإيمان الملتزم : إنفتاح لعمل الروح (30)

                                             الإيمان الملتزم : إنفتاح لعمل الروح
الاب بشار متي وردة

قداس الأحد الأول من الصيف

” لأَنِّي أَرى أَنَّ الله أنزَلَنا نَحنُ الرُّسُلَ أدْنى مَنزِلَةٍ كالمَحكومِ علَيهِم بِالمَوت، فقَد صِرْنا مَعْروضيـنَ لِنَظَرِ العالَمِ والمَلائِكَـةِ والنَّــاس. نَحنُ حَمْقى مِن أجْلِ المسـيح وأنتُم عُقَـلاءُ في المســيح. نَحنُ ضُعَفـاءُ وأنتُم أقوِيـاء. أنتُم مُكَرَّمونَ ونَحنُ مُحتَقَرون. ولا نَـزالُ حتَّى هذه السَّاعَةِ أيضًا نَجوعُ ونَعطَشُ ونَعْرى ونُلطَمُ ونُشَرَّد، ونُجهِدُ النَّفْسَ في العَمَلِ بأيدينا. نُشتَمُ فنُبارك، نُضطَهَدُ فنَحتَمِل “ (1 قور 9/4-12)

لمقدّمـة
إنها واحدة من روائع بولس، فيها إقرار شخصي بعلاقته العميقة بالمسيح وهويته كرسول له، وخبرته للرسالة في حياته. ويُوجّه في الوقت نفسه توبيخًا ضمنيا إلى كلِ مَن يظن أن الاختيار للرسالة قد يكون مبعثًا للافتخار، ولا يعي أن المجد يأتيه عطية، هبة لا استحقاقًا، وما خدمة الرسول إلا جوابٌ على الدعوة إلى الرسالة التي تلقاها. إنها خدمة تُنقّى بالألم والصليب لكي تكون ذبيحة في الوقت نفسه. نحن في أسابيع الصيف، وقد خصصت الكنيسة تأملها لعمل الروح القدس وانفتاح الرسل (الكنيسة) له. ويُفترض على مَن آمن بالقيامة أن يفتح أبواب حياته للروح، ليعمل فيه، ومن خلاله في الناس، فيكون رسولاً مختارًا : تُرى كيف يُمكننا أن نعيش خبرة إنفتاحٍ للروح. أود أن أشير في بدء هذا المقال أن النص أعلاه يَشهدُ لواقع خدمة الرسول الحقيقي، واقع الرفض، والتهمّش والألم والصليب.
بولس وقورنثس

كانت قورنثس مدينة يونانية كبيرة ومركزًا تجاريًا مهمًّا وميناء كبيرًا، جعلها همزة وصل بين شرق الأمبراطورية الرومانية وغربها. إحتلّها الرومان عام 146 ق.م. وأنهوا العصر الذهبي الذي ميّزها في عهد الإغريـق بحضـارة عظيمـة. كـان مجتمعها خليطا من ثقافات وديانات عدّة، وكثرت فيها المعابد وتنوعت فيها الطقوس، ولا سيّما طقوس الحب والخصب حتى عُدت مدينة الفجور والبغاء.
انطلق الرسل في تبشيرهم إلى المدن الكبرى. ولا بدَّ أن يكون بولس قد مر بقورنثس في رحلته الثانية، نحو اواخر سنة 50 وبعد عمل تبشيري دام سنة ونصف السنة، أسس فيها جماعة مسيحية مزدهرة، يتألف معظمها من الأمم، ومن الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة.
كتب بولس رسالته الأولى إلى أهل قورنثس نحو سنة 54م من مدينة أفسس، جوابًا على رسالة وجّهوها إليه، وطلبوا منه أن يُجيب عن مسائل خاصة (1/7). وانتهز بولس هذه الفرصة ليكتب إليهم عمّا سمعه من أخبار إنقسامات وتحزّبات داخل الجماعة المسيحية (11/1). وقرر أن يقوم بزيارة إليهم ولكن يبدو أن أهل قورنثس خيبوا آمال بولس وخذلـوه ولم يُدافعـوا عنه ضد التعاليـم والأقوال الزائفـة التي انتشرت بينهم. فترك المدينـة، والحزن يملأ قلبـه. فقرر أن يكتب إليهـم ما يُسـميه علماء الكتـاب المقدس بـ ” رسالة الدموع “ والتي فقدت. إنما وردت اشارات إليها في رسالته الثانية إلى أهل قورنثس (الفصول 10-13)، وقد أرسلها إليهم بيد طيطس، الذي نجح في تحسين العلاقات بين بولس وكنيسة قورنثس. وإذ ذاك كتب بولس رسالته الثانية التي عبّر عن شكره وفرحه وامتنانه لروح الوحدة والتعاون التي ميزت علاقاتهم مع كنيسة أورشليم المتضررة ماديًا.
الإيمان والاختيار
من بين الأمور التي سببت الحزن لبولس عند القورنثيين هو التصوّر الخاطئ عند بعضهم حول معنى ” أن يكون الإنسان مختارًا، مُنتخبًا للرسالة “. فلقد سمح البعض لأنفسهم بأن يتفاخروا بتقديم حياتهم شهادة مزيفة لمفهوم ” الخلاص “ بيسوع المسيح. فهم يؤمنون مثلما تؤمن كنيسة الله في العالم أجمع أن قيامة يسوع أهلّت المؤمنين لشركة حياة دائمة مع المسيح، إذن مع الله. وهذا يعني أن الحياة المسيحية ما هي إلا دعوة إلى القداسة، وهبة ورسالة، واتباع يقظ ليسوع المصلوب والقائم من بين الأموات. فلا مجال للتحزبات أو الأنقسامات ولا موضعَ للافتخار إلا بكون الرسل خدامًا لله. كل طريق وممارسة تُعارض ذلك من شأنها أن تؤدّي إلى التباعد والانفصال عن الله، وهو ما يفهمه بولس بالخطيئة والموت.
هكذا يُبرز بولس، وهو رسول المسيح يسوع، الارتباط بين الإيمان بالقيامة والأعمال التي يجب أن تشرح وتجسّد هذا الإيمان. وهو يرى أن إيمانه يتطلّب منه موقف إنفتاح وإصغاء للروح القدس ولعمله فيه.
قد يفهم البعض تعبير الانفتاح أنه موقف إنسان يقبل وجهات النظر المختلفة ويُحاور ضمن سياقها. قد يكون جزءً ا من المفهوم، إلا أنه ليس كل الحقيقة. الانفتاح الإيماني البولسي لعمل الروح يعني : أن يفسح المؤمن المجال للروح بأن يعمل فيه ومن خلاله في الآخرين. فهو ليس موقفًا جامدًا، بل دينامية حياة ملتزمة حتى وإن ألحقت بصاحبها ضررًا وألمًا. لا بل إن هذه الآلام تبقى معيارًا لنزاهته في الرسالة ولمصداقية خدمته. لقد تعلّم بولس، بعد خبرة طويلة بدأت في طريق دمشق وما تبعها من أزمات ومحن، كيف يُفرغ حياته لتكون مجالاً مفتوحًا للروح، مُفتخرًا لا استحقاقًا بل شكرًا للنعمة التي أفيضت عليه.
الاختيار ومعرفة الله
ان وقوف المؤمن أمام إلهه مُصغيًا ومُستقبلاً سيجعله بالتأكيد يُدرك معنى الاختيار، وسيُهيئه للتوجّه إلى العالم رسولاً مُبشرًا بالمجد المُرتجى. هكذا سيكون الإنسان روحانيًا بقدر ما يجعل من حياته مجالاً لعمل الروح. والروح الذي يسبر أعماق الله وتدبيره سيُمكّن الإنسان من أن يعيش أسرار الله ويعرف ما هو روحاني وما هو دنيوي. فإذا تفاخر الإنسان بما هو عليه، عُدَّ من الدنيويين ولم يفهم بعدُ دعوته. فرسالته كمؤمن بالمسيح تحمله على أن يكون متفرغًا تمامًا للخدمة، إنه ذبيحة من أجل المسيح للعالم، كما كان المسيح لله من أجل العالم.
وهل الأمر ممكن للإنسان ؟ لسنا أمام واقع نظري، أو جدال فلسفي، بل نحن أمام واقع عملي جدًا. لا يُمكننا معرفة الله ما لم نختبر في حياتنا اختيارنا المسيحي بالتزام ومسؤولية. الإنسان العامل وحده قادر من خلال عمله أن يُبرز هويته، والرسول بخدمته فقط يستطيع أن يشهد لمَن أرسله. المعرفة البولسية إذن ليست كنز معلومات ونظريات، بل عملٌ دؤوب لبنيان، أساسه المسيح فقط. بولس الذي تحرر من هواجسه وتوقعاته الشخصية عن الإيمان بعد خبرة دمشق، وتخلى عن كل ما كان يُشكل بالنسبة إليه مدعاة للافتخار (يهوديته، فرّيسيته، التزاماته بالتوراة) وعدّه خسرانًا من أجل المسيح، يعرف الآن ما معنى أن يكون مؤمنًا بقيامة يسوع المسيح والرسالة التي يُوكلها إليه، ويعرف كيف يحيا وِفقَ خبرة الخلاص كواقعٍ في حياته. فهو رسول إذن. من هنا أيضًا يأتي تأكيده على أنه صار من أجل رسالة المسيح نفاية للعالم، فالرسول لا يعود يهتم بمجده الخاص به، ولا يرغب في البحث عنه، بل همّه الأول والأساس هو كلمة الله كيف يُجسدها واقعًا في حياته أولاً ليتمكّن من أن يُعلنها بشارة.
فليس عمله كرسول مبعث افتخار، ولا يُمكن أن يكون طريقًا لمجد بشري أو راحة واطمئنان دنيوي، وهذا جليّ مما يُعلنه لهم في أنه وبقية الرسل جُعلوا آخر الناس نفاية العالم، ذبيحة من أجل سلامة العالم. نجد هنا ترابطًا متكاملاً بين الرسالة والذبيحة من حيث أنهما يُشيران إلى موقف الاستسلام التام لإرادة الروح وإلى عمل الروح في  الوقت عينه.
استعداد لاستقبال الروح
تُؤكد صلاة الفرض الكلدانية مرارًا، خلال أسابيع الرسل والصيف، على أن الروح أفرز رُسلاً ليبذروا في الأرض كلمة الحق، وليظهروا للناس طريق النور والحياة. قبولهم وإنفتاحهم للروح القدس يعني تكريسا إرساليا، فليس إذن إلا قبول فعّال وخلاّق. ولا تتجاهل الصلاة أيضًا المعارضة التي سيواجهها الرسل في عملهم، والألم والعذابات التي سيتحملونها، مُتذكرين واقع صليب المعلم يسوع الذي يقوّيهم لهذا العمل. رسالتهم ليست مبادرة منهم، وليست لأجل مصالحهم، بل هي كُليًا من الله بالمسيح يسوع ولأجله أيضًا. فاننا نقول في صلاتنا ” …. إن الرسل القدّيسين الذين أعلنوا وعملوا البشارة الجديدة في المعمورة كلها، واستأصلوا الزؤان الذي زرعه الشرير… احتملوا الصليب حُبًا بالمسيح الملك. لقد صلبوا العالم وشهواته بأعضائهم، واحتملوا ثقل النهار وحرّه بنشاط. بذلوا أنفسهم حُبًا بسّيدهم… ليُكمل معهم وعوده… بقوة الروح القدس احتمل الرسل التجارب وأعلنوا بشارة الرب في العالم كله، وأعادوا الأمم من الضلال، فأشرق تعليمهم كالنور في الخليقة “(1). فالرسالة نفسها واقع يسمُ حياة المُرسل بالعذابات وكأنه في ساحة حرب. لذلك يأتي إصغاؤه وقبوله الروح تحدّيًا لا يضمن له استقرارًا حياتيًا، بل رسالة صعبة تنطلق إلى العالم لتقلع كل ما يُعيق البلوغ إلى الشركة التامّة مع إلهنا وملِكنا.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى