القراءات الكتابية الطقسية
الإيمان الذي ينفتح على المشاركة (91)
الإيمان الذي ينفتح على المشاركة
زكا العشّار (لو 1:19-10)
الأب فادي نظير جورج
الأحد الأول من ايليا
ودَخَلَ أَريحا وأَخَذَ يَجتازُها. فإِذا رَجُلٌ يُدْعى زَكَّا وهو رئيسٌ للعَشَّارينَ غَنِيٌّ قد جاءَ يُحاوِلُ أَن يَرى مَن هُوَ يسوع، فلَم يَستَطِعْ لِكَثَرةِ الزِّحَام، لأَنَّه كانَ قَصيرَ القامة، فتقدَّمَ مُسرِعًا وصَعِدَ جُمَّيزَةً لِيرَاه، لأَنَّه أَوشكَ أَن يَمُرَّ بِها. فلَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى ذلكَ المَكان، رَفَعَ طَرْفَه وقالَ له : ((يا زَكَّا انـزِلْ على عَجَل، فيَجِبُ عَلَيَّ أَن أُقيـمَ اليَـومَ فـي بَيتِكَ)). فنزَلَ على عَجَل وأَضافَه مَسرورًا. فلمَّا رَأوا ذلك قالوا كُلُّهم متذَمِّرين : ((دَخَلَ مَنزِلَ رَجُلٍ خاطِئٍ لِيَبيتَ عِندَه !)) فوَقَفَ زَكَّا فقال لِلرَّبّ : ((يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَمْوَالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحدًا شَيئًا، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف)). فقالَ يسوعُ فيه : ((اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت، فهوَ أَيضًا إبنُ إِبراهيم. لأََنَّ إبْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه)). (لوقا 1:19-10)
تركيب النصّ
يُقسم النصّ إلى زمنين : الرغبة في اللقاء واللقاء.
الزمن الأوّل : زكّا هو الشخص الرئيس في النصّ. يقدّم النصّ زكّا (إسمه، وظيفته، حالته الإجتماعيّة) كما يقدّم العقبات (الجمهور، قصر القامة) ومحاولات زكّا للتغلّب على العقبات. ثم هنالك سؤال عميق يشغل بال زكّا (يريد أن يرى من هو يسوع).
الزمن الثاني : يقدّم القسم الثاني لقـاء يسـوع بزكّا. والتـركيـز هنا على فعل ” أتى “. يأتي يسوع إلى أريحا ويأتي إلى المكان الذي ينتظره فيه زكّا ويأتي ليخلّص ما هلك. يسوع هو الشخص الرئيس في النصّ.
هنالك سلسلة من الحركات المتداخلة عند زكّا وعند يسوع.. يأتي يسوع إلى أريحا، يحاول زكّا أن يراه، يمرّ يسوع بجانب الشجرة، ينظر إلى زكّا ويدعو نفسه إلى العشاء في بيته، ينزل زكّا بسرعة، يدخل يسوع بيت زكّا (تذمّر الناس)، يهتدي زكّا (نصف أمواله للفقراء، يعيد المسروق أربعة أضعاف)، ويعلّق يسوع على اهتدائه (هو أيضًا إبن إبراهيم).
تفسير النصّ
” ودَخل أَريحا وأَخذ يَجتازُها “. نحن في نهاية رحلة يسوع الكبيرة إلى أورشليم بحسب إنجيل لوقا وهي رحلة لها بُعد تعليمي واضح : تقديم شروط الحياة المسيحيّة وشروط التلمذة ليسوع المسيح. وبما أننا في نهاية الرحلة، يلخّص لوقا أهم التعاليم العزيزة على قلبه. يبدو لقاء يسوع بزكّا صدفة، لكنه في الواقع كغيره من اللقاءات.. ” زمن نعمة يضع الإنسان أمام الله ويغيّره من الداخل “. وهذا ما يقوله المسيح نفسه في نهاية اللقاء، إن إبن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلّصه. هذا يذكّرنا أن هنالك، في حياتنا، لحظات نعمة ينتظرنا الله فيها ليحمل إلينا الخلاص.
” يدخل زكّا إلى الساحة ” بوصف سلبي : رئيس عشّارين. وبما أن العشّارين طبقة مرفوضة في العقليّة اليهوديّة، فرئيس العشّارين يعني أيضًا ” رئيس الخاطئين “.
والوصف السلبي الثاني لزكّا هو أنه غنيّ. والمال في عقليّة لوقا سدّ يمنع القلب من الإنفتاح على الله وعلى الإخوة. وصف زكّا إذًا لا يحمل على التعاطف.
” يبحث عن رؤية يسوع “. وهذا أمر إيجابي. لا يريد أن ” يتفرّج “، بل يبحث عن هويّة هذا الشخص لا عن مظهره.
” لم يستطع بسبب كثرة الجمع “. يقف الجمع حاجزًا يمنع اللقاء. أنت لا تستطيع أن تلتقي بيسوع ما دمت ” ضائعًا ” في الجمع. يجب الإبتعاد عن الجمع لأن الإلتقاء بيسوع يتطلّب قرارًا شخصيًا عميقًا.
” لأنه كان قصير القامة “. نوع آخر من الموانع. وهو يأتي من الشخص الذي يبحث. أكثر العقبات صعوبة هو ما يأتي من داخلنا (النقائص، المقاومة الداخليّة لنعمة الله…).
” ركض وصعد إلى شجرة “. يتابع زكّا البحث عن يسوع بالرغم من الصعوبات، ويأخذ الوسائل اللازمة لذلك. يركض ليرى يسوع. محبّة الهدف أقوى من الصعوبة.
” وصل يسوع إلى المكان “. في وقت غير محدّد، يدخل يسوع في الساحة. المعنى هو أن الإنسان يبحث، لكن في النهاية الله هو الذي يأتي لملاقاتنا. كان زكّا يبحث عن يسوع والآن يسوع هو الذي يأتيه ويبحث عنه وينظر إليه.
” إنزل بسرعة فيجب اليوم أن أكون عندك “. يجب.. يتكلّم يسوع عن واجبه الآن، عن عمله في هذه اللحظة ” أن يبحث عن الضالّ “. ثم ” اليوم “، وكلمة اليوم عند لوقا لا تعني مدّة زمنيّة محدّدة بقدر ما تعني لحظة الإلتقاء بيسوع. عندما يأتي يسوع، هذا هو اليوم. يوم لاهوتي لا زمني.
” نزل زكّا واستقبل يسوع بفرح “. الفرح هنا ليس الفرح النفسي، بقدر ما هو الفرح المتأتي من الإلتقاء بيسوع. ويقابل هذا الفرح تذمّر الناس. كثيرًا ما يتذمّر البعض أمام معجزة أو تعليم جديد يصدر عن يسوع، لكن لوقا يذكر هنا أن التذمّر كان عامًا : ” تذمّروا كلّهم “. ” فقام زكّا وقال ” : نحن هنا في قمّة النصّ. زكّا هنا لا يتكلم مع يسوع الذي كان يريد أن يرى من هو، بل مع المخلّص الذي قبله في قلبه وفي حياته. هذا يدلّ على أن زكّا قد قام فعلاً بمسيرة قبول الخلاص في داخله. لذا ما سيقوله يسوع بعد قليل عن إعلان ما قد حدث فعلاً في داخل زكّا.
” أعطي نصف أموالي “. يقلب إهتداء زكّا الأمور رأسًا على عقب. فالمال الذي كان عائقًا أمام الخلاص يصبح علامة للإهتداء.
وهنالك ثلاث حركات في اهتداء زكّا :
لقاء حقيقي بينه وبين يسوع، وهو اللقاء الذي يُحدث التغيير..
تغيير عقليّة… من عقليّة الغني الذي ينظر إلى الأشخاص والأشياء من فوق (من جهة الكبار : كبرياء وظلم) إلى عقليّة الفقير الذي ينظر إلى نفس الأمور من جهة الفقراء والمظلومين (مشاركة وعدل).
تغيير عملي في التعامل مع المادّة من الآن فصاعدًا.
” اليوم دخل الخلاص إلى هذا البيت “. تصريح رسمي من يسوع، بعد رؤية اهتداء زكّا الواضحة واستعداده التام لتغيير حياته.
” لأنه هو أيضًا إبن لإبراهيم “. هذا هو السبب. أو بالأحرى أصبح إبنًا لإبراهيم ووارثًا لمواعيده. كان رئيسًا للعشّارين وأصبح إبنًا لإبراهيم وعضوًا في شعب الله الجديد.
” لأن إبن الإنسان أتى ليبحث عن الهالك فيخلّصه “. لقاء يسوع بزكّا أعاد إليه الفرحة بتذّوق طعم رسالته الخلاصيّة. لا يتكلّم يسوع هنا عن زكّا بل عن نفسه، عن استقبال زكّا له وعن فرحه بحمل الخلاص إلى ” إبن إبراهيم “. لهذا وُلد المسيح وبهذا بشّر ولهذا مات وقام.
تأوين النصّ
سنقرأ النصّ من منطلقين : من منطلق زكّا ثم من منطلق يسوع.
* زكّا
يدلّنا زكّا في مسيرته نحو المسيح إلى المراحل التي يجب إتّباعها للإلتقاء بيسوع.
أوّلاً أن تبقى دومًا في داخلنا الرغبة في البحث عن يسوع. الرغبة في معرفته أكثر، عدم الإكتفاء أبدًا بما نحن عليه. هذا أمر قاتل في الحياة الروحيّة.
ثم أن نعرف تمامًا عما نبحث وماذا نريد : شخص حي، لا أفكار ولا أشياء. وهذا البحث عن شخص حي أمر لا ينتهي أبدًا. كثيرًا ما نظن أننا نعرف المسيح جيدًا أو أننا نعرف جيدًا الأشخاص الذين يحيطون بنا.
مهم أن نعلم أن أمورًا في يسوع وفي الأشخاص ما زلنا نجهلها وعلينا الإستمرار في البحث عنها وفي اكتشافها.
هذا البحث يجب ألا يتوقف أمام الصعوبات الآتية من داخلنا (قصر القامة) أو من الخارج (الجمع). لا شك أننا نرتاح أكثر في البقاء في وسط الجمع من أن نقوم بجهد شخصي للبحث عن يسوع والإلتقاء به.
لسنا وحدنا في هذا الجهد. هناك من يأتي للقائنا. في لحظة ما يمرّ بقربنا. يجب أن نعرف متى يمرّ كي نستفيد من مروره وكي نحقّق رغبته في الدخول إلى بيتنا.
متى دخل المسيح بيتنا يغيّر فينا طريقة نظرتنا وحكمنا على الأشخاص وعلى الأشياء. هذا هو المقياس وهذا هو المحكّ الذي نتحقّق بواسطته من جدّية اهتدائنا.
وتغيير نظرتنا هذا يجب أن يتحوّل إلى تغيير في العقليّة وفي نمط الحياة كلّها. وهذا أمر يتطلّب القيام بخطوات جريئة ومؤلمة (نصف أموالي). لا يمكن أن نلتقي بالمسيح ونبقى فقط في مجال النوايا الحسنة أو الوعود المستقبليّة.
* يسوع
وجه يسوع في هذه الحادثة هو وجه الراعي الذي يعرف كيف يستقبل الآخر. يعلّمنا كيف نتعامـل مـع الآخريـن. ونضع أنفسنا على الطريـق معهم. عددُ الذين ينتظرون كلمة الخلاص أكثر بكثير مما نتصوّر.
يعلّمنا يسوع أن نكون مع الآخرين، أن نُمضي وقتًا معهم، أن نسمع لهم، أن نشاركهم حياتهم ومسيرتهم.
لقاؤنا بالآخر لا بدّ أن يغيّرنا نحن أيضًا. يذكّرنا أننا لسنا لأنفسنا بل علينا أن نُعيد للآخرين المواهب التي وهبنا الله تعالى إيّاها. فنحن نحقّق خلاصنا بالقدر الذي نسير فيه مع الآخرين.
الخلاصة
شكّ الناس في إمكانية رجوع العشّارين إلى الله بالتوبة. يحكم الناس على ما يُرى، وأما الله فيحكم على ما لا يستطيع الإنسان أن يراه. والواقع إن رجوع زكّا العشّار كان مستحيلاً لولا قدرة الله وحدها ولقاؤه مع المسيح، كما جاء في تعليم بولس الرسول ” جـاءَ وبَشَّرَكم بـِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم أَبــاعِد، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا أَقارِب ” (أفسس 17:2).
دخل الرب أريحا. وهناك كان لقاؤه مع زكّا. زكّا هذا في نظر الناس رجل خاطئ لأنه رئيس للعشّارين. أما قلبه فكان قد تحرّك بالتوبة، سمع كثيرًا عن المسيح، فطلب أن يراه. وعندما رآه أكمل توبته بأن قبله في بيته وصحّح من سلوكه مع الناس. بهذا العمل يؤكد لنا زكّا بأن التوبة الحقيقية وطلب الغفران هما أمران لا يمكن معهما الإنتظار والتأجيل بل يتطلبان عملاً فوريًا وآنيًا. وعليه فإن قصة زكّا العشّار فتحت باب الرجاء والأمل ليس فقط لزكّا وإنما لكل خاطئ. فحين يعود الخاطئ بالتوبة مشتاقًا للمسيح، يدخل المسيح إلى قلبه، ويقبله ويغفر خطاياه. فينال الخاطئ الخلاص.
زكا العشّار (لو 1:19-10)
الأب فادي نظير جورج
الأحد الأول من ايليا
ودَخَلَ أَريحا وأَخَذَ يَجتازُها. فإِذا رَجُلٌ يُدْعى زَكَّا وهو رئيسٌ للعَشَّارينَ غَنِيٌّ قد جاءَ يُحاوِلُ أَن يَرى مَن هُوَ يسوع، فلَم يَستَطِعْ لِكَثَرةِ الزِّحَام، لأَنَّه كانَ قَصيرَ القامة، فتقدَّمَ مُسرِعًا وصَعِدَ جُمَّيزَةً لِيرَاه، لأَنَّه أَوشكَ أَن يَمُرَّ بِها. فلَمَّا وصَلَ يسوعُ إلى ذلكَ المَكان، رَفَعَ طَرْفَه وقالَ له : ((يا زَكَّا انـزِلْ على عَجَل، فيَجِبُ عَلَيَّ أَن أُقيـمَ اليَـومَ فـي بَيتِكَ)). فنزَلَ على عَجَل وأَضافَه مَسرورًا. فلمَّا رَأوا ذلك قالوا كُلُّهم متذَمِّرين : ((دَخَلَ مَنزِلَ رَجُلٍ خاطِئٍ لِيَبيتَ عِندَه !)) فوَقَفَ زَكَّا فقال لِلرَّبّ : ((يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَمْوَالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحدًا شَيئًا، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف)). فقالَ يسوعُ فيه : ((اليَومَ حصَلَ الخَلاصُ لِهذا البَيت، فهوَ أَيضًا إبنُ إِبراهيم. لأََنَّ إبْنَ الإِنسانِ جاءَ لِيَبحَثَ عن الهالِكِ فيُخَلِّصَه)). (لوقا 1:19-10)
تركيب النصّ
يُقسم النصّ إلى زمنين : الرغبة في اللقاء واللقاء.
الزمن الأوّل : زكّا هو الشخص الرئيس في النصّ. يقدّم النصّ زكّا (إسمه، وظيفته، حالته الإجتماعيّة) كما يقدّم العقبات (الجمهور، قصر القامة) ومحاولات زكّا للتغلّب على العقبات. ثم هنالك سؤال عميق يشغل بال زكّا (يريد أن يرى من هو يسوع).
الزمن الثاني : يقدّم القسم الثاني لقـاء يسـوع بزكّا. والتـركيـز هنا على فعل ” أتى “. يأتي يسوع إلى أريحا ويأتي إلى المكان الذي ينتظره فيه زكّا ويأتي ليخلّص ما هلك. يسوع هو الشخص الرئيس في النصّ.
هنالك سلسلة من الحركات المتداخلة عند زكّا وعند يسوع.. يأتي يسوع إلى أريحا، يحاول زكّا أن يراه، يمرّ يسوع بجانب الشجرة، ينظر إلى زكّا ويدعو نفسه إلى العشاء في بيته، ينزل زكّا بسرعة، يدخل يسوع بيت زكّا (تذمّر الناس)، يهتدي زكّا (نصف أمواله للفقراء، يعيد المسروق أربعة أضعاف)، ويعلّق يسوع على اهتدائه (هو أيضًا إبن إبراهيم).
تفسير النصّ
” ودَخل أَريحا وأَخذ يَجتازُها “. نحن في نهاية رحلة يسوع الكبيرة إلى أورشليم بحسب إنجيل لوقا وهي رحلة لها بُعد تعليمي واضح : تقديم شروط الحياة المسيحيّة وشروط التلمذة ليسوع المسيح. وبما أننا في نهاية الرحلة، يلخّص لوقا أهم التعاليم العزيزة على قلبه. يبدو لقاء يسوع بزكّا صدفة، لكنه في الواقع كغيره من اللقاءات.. ” زمن نعمة يضع الإنسان أمام الله ويغيّره من الداخل “. وهذا ما يقوله المسيح نفسه في نهاية اللقاء، إن إبن الإنسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلّصه. هذا يذكّرنا أن هنالك، في حياتنا، لحظات نعمة ينتظرنا الله فيها ليحمل إلينا الخلاص.
” يدخل زكّا إلى الساحة ” بوصف سلبي : رئيس عشّارين. وبما أن العشّارين طبقة مرفوضة في العقليّة اليهوديّة، فرئيس العشّارين يعني أيضًا ” رئيس الخاطئين “.
والوصف السلبي الثاني لزكّا هو أنه غنيّ. والمال في عقليّة لوقا سدّ يمنع القلب من الإنفتاح على الله وعلى الإخوة. وصف زكّا إذًا لا يحمل على التعاطف.
” يبحث عن رؤية يسوع “. وهذا أمر إيجابي. لا يريد أن ” يتفرّج “، بل يبحث عن هويّة هذا الشخص لا عن مظهره.
” لم يستطع بسبب كثرة الجمع “. يقف الجمع حاجزًا يمنع اللقاء. أنت لا تستطيع أن تلتقي بيسوع ما دمت ” ضائعًا ” في الجمع. يجب الإبتعاد عن الجمع لأن الإلتقاء بيسوع يتطلّب قرارًا شخصيًا عميقًا.
” لأنه كان قصير القامة “. نوع آخر من الموانع. وهو يأتي من الشخص الذي يبحث. أكثر العقبات صعوبة هو ما يأتي من داخلنا (النقائص، المقاومة الداخليّة لنعمة الله…).
” ركض وصعد إلى شجرة “. يتابع زكّا البحث عن يسوع بالرغم من الصعوبات، ويأخذ الوسائل اللازمة لذلك. يركض ليرى يسوع. محبّة الهدف أقوى من الصعوبة.
” وصل يسوع إلى المكان “. في وقت غير محدّد، يدخل يسوع في الساحة. المعنى هو أن الإنسان يبحث، لكن في النهاية الله هو الذي يأتي لملاقاتنا. كان زكّا يبحث عن يسوع والآن يسوع هو الذي يأتيه ويبحث عنه وينظر إليه.
” إنزل بسرعة فيجب اليوم أن أكون عندك “. يجب.. يتكلّم يسوع عن واجبه الآن، عن عمله في هذه اللحظة ” أن يبحث عن الضالّ “. ثم ” اليوم “، وكلمة اليوم عند لوقا لا تعني مدّة زمنيّة محدّدة بقدر ما تعني لحظة الإلتقاء بيسوع. عندما يأتي يسوع، هذا هو اليوم. يوم لاهوتي لا زمني.
” نزل زكّا واستقبل يسوع بفرح “. الفرح هنا ليس الفرح النفسي، بقدر ما هو الفرح المتأتي من الإلتقاء بيسوع. ويقابل هذا الفرح تذمّر الناس. كثيرًا ما يتذمّر البعض أمام معجزة أو تعليم جديد يصدر عن يسوع، لكن لوقا يذكر هنا أن التذمّر كان عامًا : ” تذمّروا كلّهم “. ” فقام زكّا وقال ” : نحن هنا في قمّة النصّ. زكّا هنا لا يتكلم مع يسوع الذي كان يريد أن يرى من هو، بل مع المخلّص الذي قبله في قلبه وفي حياته. هذا يدلّ على أن زكّا قد قام فعلاً بمسيرة قبول الخلاص في داخله. لذا ما سيقوله يسوع بعد قليل عن إعلان ما قد حدث فعلاً في داخل زكّا.
” أعطي نصف أموالي “. يقلب إهتداء زكّا الأمور رأسًا على عقب. فالمال الذي كان عائقًا أمام الخلاص يصبح علامة للإهتداء.
وهنالك ثلاث حركات في اهتداء زكّا :
لقاء حقيقي بينه وبين يسوع، وهو اللقاء الذي يُحدث التغيير..
تغيير عقليّة… من عقليّة الغني الذي ينظر إلى الأشخاص والأشياء من فوق (من جهة الكبار : كبرياء وظلم) إلى عقليّة الفقير الذي ينظر إلى نفس الأمور من جهة الفقراء والمظلومين (مشاركة وعدل).
تغيير عملي في التعامل مع المادّة من الآن فصاعدًا.
” اليوم دخل الخلاص إلى هذا البيت “. تصريح رسمي من يسوع، بعد رؤية اهتداء زكّا الواضحة واستعداده التام لتغيير حياته.
” لأنه هو أيضًا إبن لإبراهيم “. هذا هو السبب. أو بالأحرى أصبح إبنًا لإبراهيم ووارثًا لمواعيده. كان رئيسًا للعشّارين وأصبح إبنًا لإبراهيم وعضوًا في شعب الله الجديد.
” لأن إبن الإنسان أتى ليبحث عن الهالك فيخلّصه “. لقاء يسوع بزكّا أعاد إليه الفرحة بتذّوق طعم رسالته الخلاصيّة. لا يتكلّم يسوع هنا عن زكّا بل عن نفسه، عن استقبال زكّا له وعن فرحه بحمل الخلاص إلى ” إبن إبراهيم “. لهذا وُلد المسيح وبهذا بشّر ولهذا مات وقام.
تأوين النصّ
سنقرأ النصّ من منطلقين : من منطلق زكّا ثم من منطلق يسوع.
* زكّا
يدلّنا زكّا في مسيرته نحو المسيح إلى المراحل التي يجب إتّباعها للإلتقاء بيسوع.
أوّلاً أن تبقى دومًا في داخلنا الرغبة في البحث عن يسوع. الرغبة في معرفته أكثر، عدم الإكتفاء أبدًا بما نحن عليه. هذا أمر قاتل في الحياة الروحيّة.
ثم أن نعرف تمامًا عما نبحث وماذا نريد : شخص حي، لا أفكار ولا أشياء. وهذا البحث عن شخص حي أمر لا ينتهي أبدًا. كثيرًا ما نظن أننا نعرف المسيح جيدًا أو أننا نعرف جيدًا الأشخاص الذين يحيطون بنا.
مهم أن نعلم أن أمورًا في يسوع وفي الأشخاص ما زلنا نجهلها وعلينا الإستمرار في البحث عنها وفي اكتشافها.
هذا البحث يجب ألا يتوقف أمام الصعوبات الآتية من داخلنا (قصر القامة) أو من الخارج (الجمع). لا شك أننا نرتاح أكثر في البقاء في وسط الجمع من أن نقوم بجهد شخصي للبحث عن يسوع والإلتقاء به.
لسنا وحدنا في هذا الجهد. هناك من يأتي للقائنا. في لحظة ما يمرّ بقربنا. يجب أن نعرف متى يمرّ كي نستفيد من مروره وكي نحقّق رغبته في الدخول إلى بيتنا.
متى دخل المسيح بيتنا يغيّر فينا طريقة نظرتنا وحكمنا على الأشخاص وعلى الأشياء. هذا هو المقياس وهذا هو المحكّ الذي نتحقّق بواسطته من جدّية اهتدائنا.
وتغيير نظرتنا هذا يجب أن يتحوّل إلى تغيير في العقليّة وفي نمط الحياة كلّها. وهذا أمر يتطلّب القيام بخطوات جريئة ومؤلمة (نصف أموالي). لا يمكن أن نلتقي بالمسيح ونبقى فقط في مجال النوايا الحسنة أو الوعود المستقبليّة.
* يسوع
وجه يسوع في هذه الحادثة هو وجه الراعي الذي يعرف كيف يستقبل الآخر. يعلّمنا كيف نتعامـل مـع الآخريـن. ونضع أنفسنا على الطريـق معهم. عددُ الذين ينتظرون كلمة الخلاص أكثر بكثير مما نتصوّر.
يعلّمنا يسوع أن نكون مع الآخرين، أن نُمضي وقتًا معهم، أن نسمع لهم، أن نشاركهم حياتهم ومسيرتهم.
لقاؤنا بالآخر لا بدّ أن يغيّرنا نحن أيضًا. يذكّرنا أننا لسنا لأنفسنا بل علينا أن نُعيد للآخرين المواهب التي وهبنا الله تعالى إيّاها. فنحن نحقّق خلاصنا بالقدر الذي نسير فيه مع الآخرين.
الخلاصة
شكّ الناس في إمكانية رجوع العشّارين إلى الله بالتوبة. يحكم الناس على ما يُرى، وأما الله فيحكم على ما لا يستطيع الإنسان أن يراه. والواقع إن رجوع زكّا العشّار كان مستحيلاً لولا قدرة الله وحدها ولقاؤه مع المسيح، كما جاء في تعليم بولس الرسول ” جـاءَ وبَشَّرَكم بـِالسَّلام أَنتُمُ الَّذينَ كُنتُم أَبــاعِد، وبَشَّرَ بِالسَّلامِ الَّذينَ كانوا أَقارِب ” (أفسس 17:2).
دخل الرب أريحا. وهناك كان لقاؤه مع زكّا. زكّا هذا في نظر الناس رجل خاطئ لأنه رئيس للعشّارين. أما قلبه فكان قد تحرّك بالتوبة، سمع كثيرًا عن المسيح، فطلب أن يراه. وعندما رآه أكمل توبته بأن قبله في بيته وصحّح من سلوكه مع الناس. بهذا العمل يؤكد لنا زكّا بأن التوبة الحقيقية وطلب الغفران هما أمران لا يمكن معهما الإنتظار والتأجيل بل يتطلبان عملاً فوريًا وآنيًا. وعليه فإن قصة زكّا العشّار فتحت باب الرجاء والأمل ليس فقط لزكّا وإنما لكل خاطئ. فحين يعود الخاطئ بالتوبة مشتاقًا للمسيح، يدخل المسيح إلى قلبه، ويقبله ويغفر خطاياه. فينال الخاطئ الخلاص.