القراءات الكتابية الطقسية

الإنسان هيكل الله (84)

الإنسان هيكل الله
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد الثالث من تقديس الكنيسة
” وكان فصح اليهود قريبًا، فصعد يسوع إلى أورشليم ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرًا وغنمًا وحمامًا، والصيارفة جالسين فصنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارفة وقلب موائدهم وقال لباعة الحمام : أرفعوا هذه من ههنا لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه أنه مكتـوب : غيرة بيتك أكلتني فأجاب اليهـود وقالوا له : أية آية ترينا حتى تفعل هـذا، أجاب يسـوع وقـال لهم : أنقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه فقال اليهود : في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده فلما قام من الأموات، تذكر تلاميذه أنه قال هذا، فآمنوا بالكتاب والكلام الذي قاله يسوع “.            (يو 13:2-22)
   يجعل يوحنا حدث تطهير الهيكل في بداية إنجيله بينما نجده لدى الإزائيين في الجزء الأخير من كتبهم. يقع الحدث تاريخيًا في نهاية حياة يسوع بالإعتماد على أول المبشرين مرقس (مر 15:14) عندما يحدد يسوع حياته من الهيكل خلال المحاكمة. يريد كاتب الإنجيل الرابع وضع الحدث في البداية ليبين بأن النهاية موجودة منذ البداية. وهذا أسلوب خاص بيوحنا الإنجيلي، إذ يربط ما يعمله يسوع في الهيكل بمصير الهيكل النهائي (نقضه)، وهذا ناتج من الإعتقاد بأن المسيح عندما يأتي سوف يؤسس العبادة الصحيحة. هذا ما يؤكده يسوع للسامريين (23:4) : ” ستجيء ساعة، بل جاءت الآن، يعبد فيها العابدون الصادقون الآب بالروح والحق. هؤلاء هم العابدون الذين يريدهم الآب “. العبادة ليست في أورشليم ولا في الجبل، فمكان العبادة ليس مهمًا بل كيفيتها وغايتها. العبادة إشارة إلى حضور الله بين شعبه، ومكان حضوره في التوراة كان الهيكل.
الهيكل القديم والهيكل الجديد
   ما يفعله يسوع هنا ليس تمردًا على العبادة بواسطة الذبائح وتشجيعًا للعبادة الروحية بدلاً منها. ما يريد أن يبينه هو أن الله حاضر بين شعبه والإنسان قادر على المثول أمامه مع قرابينه أو بغيرها. هذا الحضور إشارة إلى أن الله وما يعمله لأجلنا هو الأول في إيماننا، وليس ما نعمله نحن. لذلك يقوم يسوع بتطهير الهيكل من كل نجاسة وما هذا إلا آية (علامة) لما هو أعظم. هذا الفعل الرمزي النبوي يشير إلى الهيكل الجديد (يسوع). الله حاضر بين شعبه. هذا الحضور ليس شيئًا جديدًا لكنه يأتي بطريقة جديدة. كان هيكل أورشليم مكان اللقاء بين الإنسان والله. وقبله كان الحضور الإلهي يتجلى بأشكال مختلفة : الغمامة وعمود النار. لكن حان الوقت لتحقيق وعد الله (الحياة الأبدية). هكذا من البداية يبين يوحنا كاتب الإنجيل الرابع غاية إنجيله. أولاً : الإيمان بيسوع المسيح. وثانيًا : الحياة الأبدية في يسوع للذين يؤمنون به. هذا ما يكشفه يوحنا الإنجيلي من الفصل الأول (14:1) ” الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا ” ما كان (مخفيًا فيه ؟) أصبح واضحًا كليًا. كان الهيكل يشير إلى الله. أصبح الله يشير إلينا في إبنه. لم يعد الإنسان بحاجة إلى واسطة للقاء الله، بل أصبح الله نفسه حاضرًا في إبنه بيننا. من البداية يريد الإنجيل أن يبشرنا بذلك، إنه يضعنا أمام تساؤل خطير : لماذا كان الله يخفي نفسه عنا ؟ ألم يخبرنا من البدء أنه معنا (خر 14:3) كذلك (أش 14:7) (عمانوئيل). لم يكن هناك لحظة في تاريخ الله أراد فيها أن يكون مخفيًا. إنه متجسد من البداية فينا لكننا لم نستطع تذوق ولمس ذلك التجسد. اليوم تتحقق هذه الوعود في شخص الإبن (يسوع)، فيه وبه يستطيع كل شخص أن يلتقي الله وجهًا لوجه. إنه يحطم كل حدود وكل زمان في هذا الحضور. لا يوجد من بعد مكان معين أو زمان معين، إنه يحتل كل مكان وزمان لأنه ملء الله. ينقض الهيكل القديم لأنه لم يعد صالحًا، أصبح مركزًا للتجارة، اليهود يعرفون جيدًا أن التجار هم كنعانيون، وبعل هو القوة الفاعلة والحياتية لهم، وما الهيكل سوى مكان للمصالح. كذلك يقلب يسوع مناضد الصيارفة (15:2)، لا مكان لإله آخر ولا يوجد إله سوى الله، في الوقت الذي كانت صورة الإمبراطور مطبوعة على الدرهم والدينار اليوناني والروماني (متى 21:22). الإنسان فقط صورة الله التي يجب أن توضع في الهيكل. المكان الوحيد الذي لا يمكن أن يباع ويشترى فيه ولا يمكن أن يُنقض هو الكلمة الإلهية، المسيح يسوع مجد الله الذي يفيض حياة وحقيقة.
هيكل جديد لا يمكن نقضه
   أكثر من مرة حُطم هيكل أورشليم على الصعيد التاريخي، وعلى الصعيد الأكثر كثافة ومعنى، أي الصعيد الرمـزي ” أنشق حجـاب الهيكل ” (متى 51:27). والسـؤال هو : أي هيكل ذلك الذي لا يمكن تحطيمه فيكون مكانًا للقاء ؟ في كل مرة كانت تتلاشى أحلام وانتظارات شعب الله نتيجة ذلك. فماذا يصنع الله لتحقيق تلك الوعود فيُقدس إسمه بين الشعوب كلها من جهة، ومن جهة أخرى يُحقق إنتظارات وآمال شعبه. تراه ينزل ويأخذ جسدنا، حان الوقت لتحقيق حلم الله وإيمانه بالإنسان القادر على تحقيق تلك الصورة الأولى (تك 26:1) : ” قال الله : لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا… “. ومن جهة أخرى جواب الإنسان (في يسوع) بالنعمة أن يكون تلك الصـورة والمثـال. عملة بوجهيـن لا يمكن البتة أن تفعل مفعـولها إلا ملتحميـن ملتصقين. الله والإنسان. مهما كانت المسافة بعيدة بين الإثنين من ناحية إختلاف الجوهر وما نسميه الطبيعة، لكن العهد يجعلهما واحدًا. العهد الأول مع أبينا إبراهيم (تك 7:17) : ” أقيم عهدًا أبديًا بيني وبينك وبين نسلك من بعدك، جيلاً بعد جيل، فأكون لك إلهًا ولنسلك من بعدك… ” أكون لك، أكون لكم. الله لنا من أجلنا، هو يعمل من أجل أبنائه، وعمله هذا ليس من بعد تنزيهًا عنا بل هو يسكن معنا. يحول مسكنه تدريجيًا ليكون أقرب إلينا. إنه ينزل من سمائه، من جبله المقدس، يخرج من خيمته، (مسكن الله في العهد القديم)، يأتي باتجاهنا، يقترب منا، ينزل لأنه سمع أنيننا وصراخنا. نزوله أبدي أزلي لا يفكر بالعودة إلى منصبه الأول المتسامي، سموه في عبورنا نحن، في قبولنا له. وديمومته في ديناميكيتنا وحركتنا، في حياتنا. لا يمكن للمَنزل الجديد أن يُنقض بعد. ربما سهل تحطيم جدران الهياكل. لكن مستحيل تحطيم جسد الإنسان الذي يسكن الله فيه. (19:2) : ” … أنا أقيمه في ثلاثة أيام “. ليس من بعد قضية فاعل ومفعول به، بل العمل الواحد المشترك. ما أصبح واحدًا لا يمكن من بعد نقضه، وجود وجه هو إشارة لوجود الآخر حتميًا. تجسد الكلمة الإلهية في يسوع والقيامة في اليوم الثالث. بيان الشركة، الشركة من الأزل إلى الأبد. في اليوم الثالث بعد صلب المسيح. يعود الله يجدد عهده لا يتراجع لأي سبب. لأن يسوع إستطاع أن يترك بالنعمة بصمته وحضوره في كل إنسان. في اليوم الثالث يصبح كل مسيحي معمذًا مكان تجسد الله وإلى الأبد. في اليوم الثالث يقول الله ليسوع قم، وكأني به يقول لنا : فيكم أنتم الذين قبلتم المسيح أقول له قم. هكذا لا يستطيع الموت أو أي قوة أخرى أن تنقض هيكل الله من بيننا. بذلك تكون حياتنا أبدية لأن الله أبدي بيننا.
التأوين
   الكنيسة التي يقدسها الله هي جماعة حول يسوع، إنه يقدس هيكلاً أواخريًا. هذه الجماعة هي التي تحمل الله للآخرين أولئك الذين لم يستطيعوا لمسه بعد. هذه الكنيسة ليست مكانًا للتجارة، لا يمكن بعد أن نتعامل مع الآخرين كسلعة تباع وتشترى. في كل مرة نقسو فيها على أولادنا أو غيرهم ولا نحترم كونهم مقدسين نكون قد نجسنا كنيسة الله. يخبرنا يوحنا في نصه هذا أن الإنسان كنيسة الله في العالم وهي خاصة لله وحده فقط، مملكة كهنة، وأمة مقدسة (خر 6:19). لا يوجد مكان أقدس وأسمى من الإنسان نلتقي فيه وبه مع الله. هذا يتم دائمًا في الفصح (13:2) على المائدة، في الفصح حيث نُكسِرُ خبزًا (فداء) للآخرين. والمائدة مكان فرح اللقاء والشركة مع الله في الآخر..

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى