القراءات الكتابية الطقسية

إنّ عَينيَّ قد أبصَرتا رأفتك ” (76)

عيد تقدمة يسوع الى الهيكل
إنّ عَينيَّ قد أبصَرتا رأفتك “
 (لوقا 30:2)
الاب زيد عادل حبابة

ولّما تمت أيامُ تطهيرِهما بحسب ناموس موسى صعِدا به إلى أورشليم لكي يُقيمـاهُ أمـامَ الربّ، كما هـو مكتوبٌ في ناموس الرب : إنَّ كلَّ ذكرٍ فاتحِ رحمٍ يُدعى قدوس الرب، ولكي يُقرِّبا ذبيحةً على حسب ما قيلَ في ناموس الرب زوجَ يمام أو فرخي حمام، وكان رجلٌ في أورشليم اسمه سمعان وكان هذا الرَّجلُ بارِّاً صدّيقًا وكان يترجى عزاء إسرائيل وروحُ القُدُسِ كان عليه، وكان قد أوحِيَ إليهِ من روح القدس أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيحَ الرب، فهذا أقبلَ بالروحِ إلى الهيكلِ وعندما دخل بالطفلِ يسوع أبواهُ ليصنعا عنه كما أُمِرَ في الناموس، أخذَهُ على ذِراعيه وبارك الله وقال : الآن تطلقُ عبدك أيها الرب كقولك بسلام. فها إن عينيَّ قد أبصرتا رأفَتَك، التي أعددتَ قُدامَ وجه جميع الشعوب، نورًا ينجلي للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل، وكان يوسُفُ وأمُّه يتعجبان ممّا يقال فيه، وباركهما سمعانُ وقال لمريم امهِ : ها إن هذا قد جُعل لسقوط وقيامِ كثيرين في إسرائيل وهدفًا للمخالفة، وأنتِ سيجوزُ رمحٌ في نفسكِ حتى تُكشفَ أفكارٌ من قلوبِ كثيرين ؛ وكانت حنَّةُ النبيةُ إبنةُ فنوئيلَ من سبط أشير، قد طعنت هي أيضًا في أيامِها وعاشت مع رجُلِها سبعَ سنينَ بعد بكُوريتِها، ومكثت أرملةً أربعًا وثمانين سنةً ولم تكن تفارقُ الهيكلَ متعبدةً بالصومِ والصلاةِ ليلاً ونهارًا، ففي تلك الساعة وقفت هي أيضًا تعترِفُ للربِ وكانت تتكلّمُ عليه مع كُلِّ من كان يترجّى خلاصَ أورشليم
                                                                                                                          (لوقا 22:2-38)

ولاً : ماذا يقول هذا النص ؟
يجمع لوقا في هذا النص فريضتين من العهد القديم بخصوص التطهير، دون أن يميز كثيرًا بينهما، فريضة تخص الأم وفريضة تخص الإبن البكر، يؤديها الأب. تعود فريضة تطهير الأم إلى سفر اللاويين، حيث لم يكن بإمكان المرأة أن تقترب إلى الأماكن المقدسة قبل أن تتم مدة 40 يومًا بعد الولادة، وكان يرافق مجيئها تقديم حمل :
” كَلِّمْ بَني إِسْرائيلَ وقُلْ لَهم : ((أَيَّةُ اَمرَأَةٍ حَبلَت فَولَدَت ذَكَرًا تَكونُ نَجِسَةً سَبعَةَ أَيَّام، كأَيَّامِ طَمْثِها تَكونُ أَيَّامُ نَجاسَتِها، وفي اليَومِ الثَّامِنِ تُختَنُ قُلفَةُ المَولود، وثَلاثَةً وثَلاثينَ يومًا تَظَلُّ في تَطْهيرِ دَمِها. لا تَمَسُّ شَيئًا مِنَ الأَقْداس ولا تَدخُلُ المَقدِس، حتَّى تَتِمَّ أَيَّامُ طُهرها… فإِن لم يَكُنْ في يَدِها ثَمَنُ حَمَل، فلْتأخُذْ زَوجَي يَمامٍ أَو فَرخَي حَمام، أَحَدُهما مُحرَقةٌ والآخَرُ ذَبيحةُ خَطيئَة، فيُكَفِّرُ عنها الكاهِنُ فتَطهُر ” (لاويين 2:12-8).
بينما تعود فريضة تكريس الإبن البكر وتقديمه للرب، وهي ما يركز عليه لوقا، إلى سفر الخروج حيث تُعتَبر هذه الفريضة نوعًا من الفدية – وتكون مرفقة أيضًا بتقدمة حيوانات صغيرة – لذكرى فعل الله الخلاصي، عندما حرر الشعب الإسرائيلي من العبودية في مصر. ” وإِذا أَدخَلَكَ الرَّبُّ أَرضَ الكَنْعانِيِّين، كما أَقسَمَ لَكَ ولآبائِكَ، وأَعطاكَ إِيَّاها، تعزِلُ لِلرَّبِّ كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ وكُلَّ أَوَّلِ نِتاجٍ مِنَ البَهائِمِ الَّتي لَكَ : الذُّكورُ لِلرَّبّ… ” (خروج 11:13-12).
كان يوسف ومريم ملتزمين بتتميم شريعة الرب، فصعـدا بالطفـل إلى الهيكل ليقدمـاه للرب ؛ ولأنهما كانا من الفقراء قدَّما زوجًا من الحمام أو من اليمام. وفي أثناء زيارتهما لهيكل أورشليم، حصلت مفاجأة في علاقة مستقبل الطفل، جاءت بشكل نبوءات على فم شخصين طاعنين في السن، هما سمعان وحنة.
تحمل شخصيتا سمعان وحنة قيمة رمزية كبيرة، فهما يمثّلان الإعتراف بأن يسوع هو المسيح المخلص، ويعود هذا الإعتراف إلى حياتهما التي كان يقودها الروح القدس وكانت في حالة الإنتظار الواثق ! فكل منهما يمثل الإسرائيلي التّقي الذي ينتظر تحقيق وعود الله برجاء وثقة.
سمعان، ومعنى اسمه ” اللهُ سَمِعَ “، كان يسمع كلام الله ويحفظه، لأن الروح القدس كان عليه ؛ كان يعرف تفسير الكتب المقدسة ويقرأ علامات الأزمنة والأحداث الخلاصية وتحقيقها بيسوع ؛ كان في إنتظار العهد القديم لمجيء المخلص. لذلك يأتي نشيده في خط التقليد الكبير لعبد يهوه ؛ إنه يشيد بدعوة الله الخلاصية لجميع الشعوب، عن طريق شعبه المختار : ” قَليلٌ أَن تَكونَ لي عَبدًا لتُقيمَ أَسْباطَ يَعْقوب وتَرُدَّ المَحْفوظينَ مِن إِسْرائيل. إِنِّي قد جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِيَبلغ خَلاصي إلى أَقاصي الأَرض ” (أشعيا 6:49).
وبعد أن أعلن سمعان عن الخلاص الذي أبصره في يسوع وقد أعده الله لكل الشعوب، نورًا للامم ومجدًا لشعب الله اسرائيل، توجه بكلامه إلى مريم مبينًا لها مواقف اليهود، والألم الذي سيصيبها عندما ستراه معلقًا ومائتًا على الصليب.
أمّا حنة النبيّة، فلعمرها الـ84 سنة ولانتمائها إلى سبط أشير، قيم رمزية أيضًا، فإذا اعتبرنا العدد 84 ناتجًا عن ضرب 12×7، فيرمز العدد 12 إلى عدد الأسباط، ويرمز العدد 7 إلى الكمال ؛ وإذا توقفنا عند سبط أشير من جهة كونه أصغر أسباط إسرائيل، صار إعتراف حنة، المنتمية إلى هذا السبط، إعتراف الصغار والبسطاء، الذين كانوا ولا يزالون الأكثر إستعدادًا للإعتراف بيسوع مخلصًا.
في هذا الحدث، يظهر يوسف ومريم وكأنهما في فعل تقدمة إبنهما كما كان الحال مع اللاويين في تقديم الذبائح ؛ بينما يبدو، مع سمعان وحنة ومن خلال ما تنبئا به، أن الله هو من يقدم إبنه لأجل خلاص الشعب !
ثانيًا : تأوين النص
إن الإحتفال بعيد تقدمة يسوع إلى الهيكل هو تعبير عن طاعة ربنا يسوع المسيح، إذ يأتي إلى بيت أبيه ليكمِّل مشيئته ويقدِّم نفسه ذبيحة للخلاص ؛ وهي مناسبة كي نجدد إيماننا به من خلال التعليم الذي يحمله النص الإنجيلي لهذا العيد.
إن تقدمة يسوع للرب في الهيكل من قبل والديه هي، لا مجرد تطبيق للشريعة فحسب، بل تعبير عن فكرة عميقة تقول إن هذا الطفل ينتمي إلى الله ؛ فعلينا أن نرى في هذه الفكرة مبدأً مهمًا في قدسية الحياة : فكل مسيحي مدعو بجدية إلى اعتبار كل طفل هبة منه تعالى، لا حق له في أن يرفضها أو يتصرف بها كما يشاء.
نرى في سمعان الشيخ وحنة النبيّة مثال الإنسان الذي يعتمد كليًا على الله في حياته، منذ طفولته وشبابه حتى شيخوخته ؛ ينتظره برجاء وثيق بأن الله سيكمّل وعده ويحققه مع الإنسان، حتى وان بدا هذا متأخرًا بسبب التقدم في السن ؛ فسمعان لا يخاف من شيخوخته واقترابه من الموت ؛ إيمانه بالله حمَلَه على أن يرى في يسوع رأفة الله وخلاصه ؛ فمنذ الآن يقدر سمعان أن يضع نفسه كاملة بين يدي الله، وأن يموت بسلام ! فإيماننا بالله إذا يعطي معنى لحياتنا كلها، بماضيها وحاضرها ومستقبلها. ونرى أيضًا أن سمعان وحنة قد استطاعا، من بين كل الجماهير التي كانت تصلّي في الهيكل حينها، أن يكتشفا الخلاص الذي يقدمه الله لشعبه في هذا الطفل المقدّم من قبل والدين بسيطين ؛ وهذا يبيّن لنا مَن يكشف الله عن نفسه له ومن هو قادر على التعرف عليه عند مجيئه ! يحثّنا كل من سمعان وحنة على أن لا نعتمد في مسألة خلاصنا على قوانا الشخصية وإمكانياتنا البشرية ؛ وإنما علينا أن ننظر بهدوء إلى فقرنا وضعفنا، ولكن بوعي وتسليم كاملين.
إن ولادة يسوع في عالمنا ودخوله في حياتنا وبقاءه معنا، لمناسبة للحكم، فهو للبعض منّا سلام ونور وللبعض الآخر شك وسقوط ! فعلينا أن نقبل المسيح الذي يقدمه الله رأفة وخلاصًا لنا، وأن نترك له المجال لينير قلوبنا ويملأها حبًا ورجاءً، وأن نحمله بدورنا إلى العالم أجمع فتلك هي رسالتنا.
ثالثًا : صلاة من وحي النص
أيها الرب يسوع، نطلب منك في عيد تقدمتك في الهيكل، أن تساعدنا كي نقدم ذواتنا كلها، وذلك بالطاعة لمشيئتك القدوسة.
 إجعلنا، كسمعان الشيخ وحنة النبيّة، نفتح قلوبنا ونمدّ أذرعنا لنستقبلك في حياتنا، عطيّة ورأفة من الله لخلاصنا ؛ فنقدر حينها أن نحملك إلى عالمنا نورًا ينير ظلام ليالينا ؛ كم نشعر مرارًا بأننا عاجزون عن الإعتقاد بأنك قادر على ذلك !
 فنطلب منك يا رب أن تشدّد عزمنا لكي نستقبلك كل يوم، وكُلُّنا ثقة بأنك ستجدد كل شيء : محولاً الظلام إلى نور، واليأس إلى رجاء، والشك إلى إيمان، والتشتت إلى وحدة وسلام، آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى