القراءات الكتابية الطقسية

إنجيل عيد الصعود (49)

إنجيل عيد الصعود
الاب زيد عادل حبابة
وَفِيمَا هُم يَتَكَلَّمونَ بِذلكَ، وَقَفَ يَسُوعُ في وَسْطِهِمْ، وقَالَ لَهُم : السَلامُ مَعَكُــم أنا هـو لا تَخافـوا. فاضطربوا وخَافوا لأنّهم ظنـُّوا أنّهم يَنظُـرونَ رُوحًـا. قــَالَ لهــم يسـوعُ : مـا بَالكُـم مُضطَربيـن ولماذا تخطُـرُ الأفكارُ في قُلوبِكم. أُنظـروا يديَّ ورجلـيَّ. فإنّـي أنا هـو جُسُّوني واعلموا فإن الرُّوحَ ليس لهُ لحمٌ ولا عظامٌ كما ترونَ لـي. ولمّا قال هذا أراهم يديهِ ورجليهِ. وإذ كانوا غيرَ مصدِّقـين بعدُ من فرحهم ومتعجّبين قـال لهم : أعندكـم ههنـا شـيءٌ يؤكــل. فأعطـوهُ قطعـةً من سـمكٍ مشـويٍّ ومن شَـهْدِ عسـلٍ. فأخذ وأكل قُدّامهم. وقال لهم : هذا هو الكلامُ الّذي كلّمتكم بهِ إذ كنـتُ عندكم أنّهُ ينبغي أن يتِِمَّ كلُّ ما هـو مكتوبٌ عنّي في نامـوس موسى وفي الأنبياءِ والمزامير. حينئذٍ فتح أذهانَهم ليفهموا الكُتُب. وقال لهم : هكـذا هو مكتوبٌ وهكذا كان يَنبَغي أن يَتألَّمَ المسيحُ ويقومَ من بينِ الأمواتِ في اليـوم الثالـث. ويُكـرَزَ بإسـمهِ بالتوبـةِ لمغفِـرةِ الخطايا

التحليل الكتابي
يرسـم لوقا في الفصل الأخير من إنجيله طريقًا للإيمان بيسوع المسيح القائم من بين الأموات، وذلك من خلال ثلاثة ظهورات، الأول بشارة ملاكَين للنساء والثاني ترائي يسوع لتلميذَي عمّاوس والثالث ترائي يسوع لمجموع التلاميذ في أورشليم، وهو النص الذي نقرأه في عيد الصعود، حيـث نجد فيـه تركيزًا كبيـرًا في معرفة يسوع القائم من بين الأموات، لأن لوقا يكتب إلـى اليونانييـن الـذيـن لا يتصـورون بسـهولة قيامة الأموات، فيجعل لوقا يسوع يؤكد لتلاميذه بأنه فعلاً إنسان حقيقي من خلال كلامه معهم وأفعاله ” أنظروا.. إلمسوا.. أكل أمامهم “. لوقـا شـرح الإيمـان المسيحي بطريقة تناسب عقلية اليونانييـن الذيـن كانوا يعتبرون الجسد سِجنَ النفس من خلال ثلاثة براهين : ” رؤية “، ” لمس “، ” أكل “. إن حضور يسوع الحي يجعل من الرسل شهودًا فـي العالـم ويمنحهـم الروحَ القدس الذي سيعمل فيهم. ويؤكد لوقا، من خلال وصية يسـوع لتلاميذه، بأن مدلول أو جوهر شخصية يسوع لا يُفهَم إلا من خلال الكتب المقدسة، ولهذا يذكّر يسوع بتعليمه الأرضي، ويلخّصه في أن مصيره كان إتمامًا للكتب المقدسة.
أما صعود يسـوع ودخوله في مجـد الآب، فيتحدث عنهما لوقا في موضِعَيـن مختلفين من كتابيـه : في الفصل الأخيـر من إنجيله، وفي الفصل الأول من سـفر أعمال الرسل. ففي الإنجيل يذكر لوقا إن يسوع ارتفع إلى السماء في اليوم نفسه الذي قام فيه ليدل على أن تمجيد يسوع لا ينفصل عن قيامته. أما في سفر أعمال الرسل، فيذكر لوقا أن يسوع بقي يظهر لتلاميذه مدة أربعين يومًا.
إن عدد الأربعين، في الكتاب المقدس، هو عدد رمزي يدل على مدة طويلة تمهّد لحدث عظيم. فاليهود سـاروا أربعين سـنة في الصحـراء قبل الدخول إلـى أرض الميعاد، ويسوع صام أربعيـن يومًا قبل البدء برسـالته. وكذلك الأمر بالنسـبة إلى صعود يسوع إلى السماء، حيث يأتي بعد أربعين يومًا من القيامـة. كما يخبرنا لوقا، في أعمال الرسل، كان يسـوع يظهر لتلاميذه لكي يهيئهم لنوع جديد من حضـوره بينهم. إنها الفتـرة الأولى من حياة الكنيسـة التي عمّق فيها الرسـل إيمانهم بقيامة يسوع المسيح، وإدراكهم الرسالة التي أوكلها إليهم.
الإطار الليتورجي
من خلال النص الإنجيلـي، نلاحظ أن عيد الصعـود يرتبط إرتباطًا وثيقًا بعيـد القيامة وبعيد حلول الروح القدس على التلاميذ. فمن جهة، نحتفل بعيـد صعود الرب القائم من الأموات، ومن جهة ثانية يمهّد صعود المسيح إلى السـماء وجلوسه ممجدًا عن يمين الآب، لزمن الرسل الذي سيبدأ بعيد العَنصـرة، أي بحلول الروح القـدس على التلاميذ، وانطلاقهم لحمل البشرى السارّة إلى العالم. وهذا ما تعكسه صلاتنا الفرضية التي تتكلم دائمًا عن الصعود، كامتداد للقيامة وتهيئة لمجيء الروح القدس الذي سيسند جماعة الرسل، لكي ينطلقوا إلى العالم أجمع، وذلك من خلال صلاة موةبا أي جلسة الصلاة لعيد الصعود :
” المســيح صُلب ومــات وقُبر، قام حيًا ملكًا عظيمًا للمجـد، وصعـد إلى الســماء وملك على الكل، وهو مُزمع أن يأتي ليدين الأحياء والأموات “.
” بسـحابة مــن نــور وتسـبحة الروح، صعــد ربنا يسـوع إلى الســماء، وتعهــد ووعــد بإرسال الروح لتلاميذه الرسل الذي به نصّرهم “ (الحوذرا، الجزء الثاني، ص496).
تأويـــــــــــــن
إن الإحتفال، بعيد صعود المسيح إلى السماء، هو إحتفال بيسوع إلهًا وربًا ممجدًا، وهو مناسبة لتجديد إيماننا به سيدًا مطلقًا على الكون والخليقة وعلينا، وهذا لا يمكن إلا إذا آمنّا بقيامته من بين الأموات. ونحن قبل أربعين يومًا إحتفلنا بعيد القيامة وقلنا ” قام المسيح.. حقًا قام “ فعلينا الرجوع إلى أنفسنا، ونفكّر كيف عشنا هذه الأيام التي مضت، هل كان المسيح هو إلهنا في هذه الفترة، أم اننا عدنا إلى الآلهة التي صنعناها لأنفسنا : المال، الشهرة، اللذة، السلطة ؟!
إن صعود المسيح ليس صعودًا مكانيًا، يجعله بعيدًا عنّا، بل على العكس فالمسيح بصعوده لم يتركنا يتامى إذ قد ركّز نفسه بيننا في الأماكن التي علّم رسله أن يعرفوه فيها، وهي الكتاب المقدس، الأسرار، القريب.
فصعود المسيح إلى السماء هو حضور قوة وفعالية، إنه حضور مكثّف، حضـور من نوع آخر – إنه حضور روحي. وهذا ما يجعلنا أن نفرح لأنه هنا على الأرض معنا، ولم يتركنا ابدًا، فهو حاضر في كل مكان : في الصلاة وفي العمل في الصالح وفي الخاطئ. وهكذا يبدأ عمل الكنيسـة المسنودة بالروح القدس، فيسوع سلّم المَهَمّة إلى تلاميذه. فهو لن يعمـل بيديه بعد الآن، بل يعمـل بأيدينا ويتكلم بأفواهنا ويحب بقلوبنا، فيسوع سيكون حاضرًا في الجماعة (الكنيسـة) حين تحمـل الجماعة كلمـة البشارة إلى العالم، فلن يكون يسـوع محصورًا في مـدن الجليل بل امتدّ إلى أقطار الأرض كلّها.
إذا أردنا أن نعيش حَدَثَ الصعود، علينا أن نصعد نحن أيضًا، أن نرتفع، أي أن نتحرر من الجاذبية التي تريد أن تبقينا متعلّقين ومنجذبين إلى أنفسنا فقط، غير مبالين بالآخرين، وكأنهم لا يعنون لنا شيئًا. فصعودنا وارتفاعنا هو تجاوز حدودنا الضيقة وتغلّبٌ على المعضلات والمشاكل وكل ما يعرقل مسيرتنا في الإرتفاع والصعود نحو الله أي نحو الخيـر، وهذا لا يتم إلا إذا عشـنا بالمحبة وللمحبة، وتكلّمنا مع القريب بلغة الحب والرحمة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى