القراءات الكتابية الطقسية
إنجيل الرحمة (86)
إنجيل الرحمة
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد الرابع من الرسل
وَرَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه وقال : ((طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله. طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون. طوبى لَكُم أَيُّها الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون. طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا إسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ إبنِ الإِنسان. اِفرَحوا في ذلك اليَومِ واهتَزُّوا طَرَبًا، فها إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم، فهكذا فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء. لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم. الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون. الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس فَهكذا فَعَلَ آباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين. (لوقا 20:6-26)
الإنجيل بشارة رّبنا ومخلصنا يسوع المسيح هي رحمة الله للعالم، ولكن ما يميز لوقا عن سائر الإنجيليين الآخرين التركيز على تلك العطية التي فتحت أمام الخاطئ والضائع طريق الخلاص بعد أن فقد كل أمل. تجسدت رحمة يسوع في إنجيل لوقا بطريقة خاصة في إنسانيته وأعماله وأقواله، حيث انفرد ببعض النصوص التي تجعل إنجيله، إنجيل الرحمة، نصوصًا نقف فيها أمام ذواتنا وتنعكس كما في المرآة شخوصها، تلك المرأة التائبة (36:7-50)، وزكا ذلك الذي تحرر من قُصره برحمة المسيح وشفقته (1:19-10)، ويأتي خبر غفران اللص على الصليب قوة ودفعة لعودة كل يائس إلى حظيرة الخراف (39:23-43). ليس فقط على صعيد العمل بل إن الكثير من الأمثال التي قدمها يسوع (- لوقا) تميزت بالرحمة وتكاد تخلو منها الإناجيل الثلاثة الباقية.
مثل الخروف الضال يشير إلى المسيح الذي يحملنا على منكبيه وعلى الرغم من ضياعنا يعود بنا إلى البيت الأبوي.
ومثل الإبن الضال نجد فيه أفضل صورة لرحمة الله بخلقته. كما يقلب يسوع كل الموازين في مثل الفريسي والعشار فيخرج الخاطئ أكثر مبررًا من الفريسي، وأمثال أخرى كثيرة كـ : مَثَل الغني ولعازر، والسامري الصالح وغيرها من الأمثال، التي تجسدها تطويبات يسوع اللوقاوية بصورة أكثر كثافة لبيان رحمة الله في إنجيله.
مفارقات في خدمة الملكوت (لو 6:20-26)
ما يميز نص لوقا هو المكان والجماعة التي وجهت إليها التطويبات. يتكلم يسوع في أرض سهلية ويتوجه في خطبته هذه إلى جماعة التلاميذ (20). يتوجه إلى السهل نحو الجموع المتشوقة إلى سماع تعليمه ربما يريد أن يوسع حلقة سامعيه (17). وما يزيد قوة وعمق خطبة يسوع هذه هي (الآن) إشارة إلى المستقبل، المسيح الذي أتم مواعيد العهد القديم حيث يبدأ عصر الخلاص، الآن التي تشير إلى أن هذه الحياة القصيرة من التكلم والتمتع يتبعها إنقلاب في الموت وهذا ما يجسده مثل الغني ولعازر (لو 16) عاكسًا رحمة الله غير المحدودة للمتروكين.
يقدم لوقا أربع تطويبات ويتبعها بأربع ويلات ويشكّل بذلك تعارضًا أدبيًا من الجنس ذاته. فهو يقدم المفارقات من خلال المعطى الأصلي الذي يريد تقديمه لمستمعيه، ويربط الويلات بالتطويبات، مقابل البشرى للفقراء المنبوذين، ويعلن بقوة من جهة اخرى شقاء الذين رفضوا بعناد تعليم الخلاص الذي يقدمه يسوع.
تعلن التطويبات الثلاث الأولى عن مجيء ملكوت الله والإشارة إلى الذين يدخلون إليه، يستعيد لوقا هنا خطاب أشعيا (1:61-2) الذي أشار إليه سابقًا في خطبته بالناصرة (لو 18:4) ” روح الرب علي لأن الرب مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء واجبر منكسري القلوب……… “. يعيد يسوع في هذا النص الإشارة كما يؤكد أنه حامل البشرى ووسيط الخلاص الموعود فيه، إنه يأتي من أجل الفقراء والجياع والحزانى. نحن أمام تعابير ثلاثة، لفئة واحدة من المدعوين إلى ملكوت الله.
أما التطويبة الرابعة فهي دعوة إلى الفرح في يوم الإضطهاد، اليوم المقبل في أيام يسوع (إضطهاد يسوع) صار حاضرًا في أيام تأليف إنجيل لوقا (أيام الكنيسة اللوقاوية). لذلك لا تعتبر هذه التطويبة تشجيعًا عابرًا بل دعوة للمسيحيين الذين سيقاسون الإضطهاد للدخول من الآن في صيرورة الحدث الخلاصي الذي حققه المسيح في ألمه.
في مقابل التطويبات الأربع تأتي أربع ويلات (24:6-26)، نوع من التعارض الأدبي والتعليمي. بالتأكيد لا يوجه لوقا هذه الويلات نحو التلاميذ أو الجموع التي تصغي إليه وإنما يوجه كلامه هذا لكل من يسمع ويرفض تعليم يسوع بالتوجه نحو الفقير والجائع والحزين، المقصود الكتبة والفريسيون ورجال الدين الذين يهملون الفقراء ويسيئون إلى الجموع التي لا تخضع لإرادتهم. وهذا ما يمكن إستنتاجه من الآية (27) حيث يعود يسوع إلى المستفيدين من التطويبات قائلاً : ” وأما أنتم أيها السامعون، فإني أقول لكم… ” هكذا يُبين لوقا أن الويلات موجهة إلى مستمعين آخرين.
1- طوبى للفقراء ووَيْل للأغنياء
لا يريد لوقا بالفقراء على المستوى الروحي الباطني كما يقدمه متى (فقراء الروح) وإنما يركز لوقا على الفقراء كطبقة إجتماعية مسحوقة. كما يخص بالأغنياء تلك الطبقة التي لا تحتاج إلى شيء. إنه يهنئ من سيحصلون مستقبلاً على سعادة الملكوت التي تعارض بشكل أساسي المال. بين التعلق بالخيرات الأرضية وطلب ملكوت الله، لا يستطيع أحد أن يعبد سيدين (13:16) والشاب المتعلق بالخيرات لم يستطع إتباع يسوع (22:18-23)، والغنى وملذّات الحياة تخنق كلمة الله المزروعة في قلب الإنسان (14:8). الغنى مرفوض بسبب التجاوزات التي يسببها، ظلم الفقراء والتكبر والفسق، وإلخ من التجاوزات. ولكن ليس هذا السبب الأول بل يرفض يسوع – لوقا الغنى في حد ذاته. لا يقول يسوع إن الغني سلب لعازر شيئًا ولكن الغني المتعلق بغناه لأنه غير مبالٍ بالآخر القريب إليه. بعد الموت تنقلب الأدوار، الغني في لهيب القسوة، والفقير يتمتع في حضن إبراهيم. كما ينفرد لوقا بتسمية المال (مأمون الظلم) (9:16) ولذلك ما يجعل يسوع يمدح الوكيل الخائن هو استغناؤه عن المال، عن الضمانات، لا يوجد للتلميذ أي ضمان غير يسوع وكلامه.
2- طوبى للجائعين ووَيْل للشِباعْ
بدل الفقراء يقدم لوقا الجياع، وبدل الأغنياء يقدم الشِباع، نحن أمام تقريب بين الفقراء والجياع من جهة وبين الأغنياء والشباع من جهة أخرى. بالطريقة نفسها نحن أمام فئات إجتماعية واقتصادية وليس على صعيـد الإستعـداد الداخلـي. الويـل للمتخمين المملوءين وفي المقابل تزيد في التهنئة كلمة (الآن) التي كما ذكرنا تشير إلى قرب ما هو موعود به، مقارنة بين الوضع الذي يعيشونه الآن وبين وضعهم المقبل. إشارة إلى الملكوت الآتي لهؤلاء الذين تركهم العالم، لكن الله يتذكرهم دائمًا. يحاول لوقا بيان الفرق بين الأغنياء والفقراء في إنجيله. فمثل الغني الجاهل (19:12)، الغني الذي كل همه الأكل والشرب والتنعم دون حساب لأي شيء آخر. كذلك بالعودة إلى لعازر الفقير الذي يتمنى أن يملأ بطنه من الفتات المتساقط عن مائدة الغني (21:16).
3- طوبى للباكين ووَيْل للضاحكين
يشير لوقا إلى الباكين الذين سيضحكون ويقابلهم بالضاحكين الذين سيبكون يستعمل في كل من التطويبة والتهديد، العناصر نفسها ولكن بطريقة معاكسة تمامًا. يشير إلى المصير المقلوب لكل جماعة من الجماعتين. لا يستعمل لوقا تعبيري الفرح والحزن اللذين يدلان على القيمة الروحية الباطنية كما يفعل متى (5) وأشعيا (49) ونصوص أخرى كثيرة في الكتاب المقدس ؛ ولكن يستخدم صفتين متناقضتين تشير الأولى (البكاء) إلى الجور وكل أنواع القهر والتحقير والحاجة التي سينعم أصحابها بالضحك كعطية من الله على ما أصابهم، بينما تشير الصفة الثانية (الضحك) إلى أولئك المستهزئين بالآخرين غير المبالين إلا لذواتهم والآخر المنكوب فرصة للضحك والإستمتاع، ستنتقل الأمور نتيجة هذا الإستغلال الأعمى للآخر، فيصبح البكاء نتيجة لتكبرهم ونرجسيتهم.
4- المبغضون والمكرمون
تتعلق التطويبة الرابعة والأخيرة بالفقراء أيضًا. يفكر لوقا هنا بمسيحية الفقراء المضطهدين وما يعانونه نتيجة هذا اللقب الأواخري (إبن الإنسان)، لكنه يتوسع في تقديم الصورة التي يريدها يسوع من التلميذ في الآية ” 27 ج ” ” ……… أحسنوا إلى مبغضيكم “. يسوع يدعو الفقراء، الجياع، الباكين والمضطهدين، ليس فقط إلى الفرح المستقبلي الموعود به لمستمعيه بل إلى تحمل المعاملات السيئة، لا إلى السبب الذي من أجله نتحملها، كما يؤكد التخلي عن الإنتقام تجاه أولئك الذين أساءوا إليهم. ولذلك لا يوجه يسوع الويلة الرابعة تجاه المضطِهِدين بل تجاه المُكرَّمين من الناس، تجاه الممدوحين، يبعد يسوع أي باعث ديني في ما يحصل لهؤلاء، على ضوء ما ناله الأنبياء الكذبة من رضى لم يكن له أي أثر في حياتهم، بل على العكس، مجرد حياة مزدوجة مريرة من الناحية الإجتماعية.
التأوين
يدعونا لوقا في عرض للخطبة بهذا الشكل إلى التأمل في حياتنا مع الله في ضوء إيمان كنيسته، إنه ينير حياتنا المهددة بالفقر بأنواعه والإضطهاد بأشكاله برحمة الله الأخاذة التي إذا ما أسلمنا ذواتنا لها، فعلت مفعولها، فلا يعود وضعنا الطبقي أو الإجتماعي سبب مأساتنا وعوقنا الروحي بل يصبح هذا الوضع مجرد واقع معين يمكن تبديله إلى الأفضل من خلال روح الرحمة التي يفيضها الله فينا. خطبة يسوع هذه كشفت ذلك التفوق الإنقلابي تجاه الفقر والغنى، فيحتل فرح الغنى فقرنا. ويضيع طعم كل ثروتنا في هموم العالم وانشغالاتنا عن عيش الفرح الحقيقي مع الآخر في المسيح. عدم تأثير الفقر المادي في حياتنا الروحية هو دافع نستطيع فيه تقدير الخيرات الروحية الممنوحة على الرغم من العوز المادي والجسدي، وهذا التقدير واحتمال المصائب بثقة الإنجيل (الفرح) هو التواضع أمام رحمة الله، إلى حد أن ما يعيشه الإنسان من فقر وجوع وبكاء وإضطهاد ليس النهاية بل هو طريق إلى المجد. مجد الله الذي يصبح حاضرًا في اولئك المختلفين (35:6). اولئك الذين لم يستطع شيء في هذا العالم أن يمنعهم من كشف الله في العالم وتقديم المسيح من خلال حياتهم. رحمة الله هي نداء لطلب ملكوت الله على الرغم من الفقر والإضطهاد، رحمة الله تتجسد في التلميذ الذي يسمع ويعلن ويعيش نداء المسيح.
الأب ميسر بهنام المخلصي
الأحد الرابع من الرسل
وَرَفَعَ عَيْنَيْه نَحوَ تَلاميذِه وقال : ((طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله. طوبى لَكُم أَيُّها الجائعونَ الآن فَسَوفَ تُشبَعون. طوبى لَكُم أَيُّها الباكونَ الآن فسَوفَ تَضحَكون. طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا إسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ إبنِ الإِنسان. اِفرَحوا في ذلك اليَومِ واهتَزُّوا طَرَبًا، فها إِنَّ أَجرَكُم في السَّماءِ عظيم، فهكذا فَعَلَ آباؤهُم بِالأَنبِياء. لكِنِ الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء فقَد نِلتُم عَزاءَكُم. الوَيلُ لَكم أَيُّها الشِّباعُ الآن فسَوفَ تَجوعون. الوَيلُ لَكُم أَيُّها الضَّاحِكونَ الآن فسَوفَ تَحزَنونَ وتَبكون. الوَيلُ لَكُم إِذا مَدَحَكم جَميعُ النَّاس فَهكذا فَعَلَ آباؤُهم بِالأَنبِياءِ الكَذَّابين. (لوقا 20:6-26)
الإنجيل بشارة رّبنا ومخلصنا يسوع المسيح هي رحمة الله للعالم، ولكن ما يميز لوقا عن سائر الإنجيليين الآخرين التركيز على تلك العطية التي فتحت أمام الخاطئ والضائع طريق الخلاص بعد أن فقد كل أمل. تجسدت رحمة يسوع في إنجيل لوقا بطريقة خاصة في إنسانيته وأعماله وأقواله، حيث انفرد ببعض النصوص التي تجعل إنجيله، إنجيل الرحمة، نصوصًا نقف فيها أمام ذواتنا وتنعكس كما في المرآة شخوصها، تلك المرأة التائبة (36:7-50)، وزكا ذلك الذي تحرر من قُصره برحمة المسيح وشفقته (1:19-10)، ويأتي خبر غفران اللص على الصليب قوة ودفعة لعودة كل يائس إلى حظيرة الخراف (39:23-43). ليس فقط على صعيد العمل بل إن الكثير من الأمثال التي قدمها يسوع (- لوقا) تميزت بالرحمة وتكاد تخلو منها الإناجيل الثلاثة الباقية.
مثل الخروف الضال يشير إلى المسيح الذي يحملنا على منكبيه وعلى الرغم من ضياعنا يعود بنا إلى البيت الأبوي.
ومثل الإبن الضال نجد فيه أفضل صورة لرحمة الله بخلقته. كما يقلب يسوع كل الموازين في مثل الفريسي والعشار فيخرج الخاطئ أكثر مبررًا من الفريسي، وأمثال أخرى كثيرة كـ : مَثَل الغني ولعازر، والسامري الصالح وغيرها من الأمثال، التي تجسدها تطويبات يسوع اللوقاوية بصورة أكثر كثافة لبيان رحمة الله في إنجيله.
مفارقات في خدمة الملكوت (لو 6:20-26)
ما يميز نص لوقا هو المكان والجماعة التي وجهت إليها التطويبات. يتكلم يسوع في أرض سهلية ويتوجه في خطبته هذه إلى جماعة التلاميذ (20). يتوجه إلى السهل نحو الجموع المتشوقة إلى سماع تعليمه ربما يريد أن يوسع حلقة سامعيه (17). وما يزيد قوة وعمق خطبة يسوع هذه هي (الآن) إشارة إلى المستقبل، المسيح الذي أتم مواعيد العهد القديم حيث يبدأ عصر الخلاص، الآن التي تشير إلى أن هذه الحياة القصيرة من التكلم والتمتع يتبعها إنقلاب في الموت وهذا ما يجسده مثل الغني ولعازر (لو 16) عاكسًا رحمة الله غير المحدودة للمتروكين.
يقدم لوقا أربع تطويبات ويتبعها بأربع ويلات ويشكّل بذلك تعارضًا أدبيًا من الجنس ذاته. فهو يقدم المفارقات من خلال المعطى الأصلي الذي يريد تقديمه لمستمعيه، ويربط الويلات بالتطويبات، مقابل البشرى للفقراء المنبوذين، ويعلن بقوة من جهة اخرى شقاء الذين رفضوا بعناد تعليم الخلاص الذي يقدمه يسوع.
تعلن التطويبات الثلاث الأولى عن مجيء ملكوت الله والإشارة إلى الذين يدخلون إليه، يستعيد لوقا هنا خطاب أشعيا (1:61-2) الذي أشار إليه سابقًا في خطبته بالناصرة (لو 18:4) ” روح الرب علي لأن الرب مسحني وأرسلني لأبشر الفقراء واجبر منكسري القلوب……… “. يعيد يسوع في هذا النص الإشارة كما يؤكد أنه حامل البشرى ووسيط الخلاص الموعود فيه، إنه يأتي من أجل الفقراء والجياع والحزانى. نحن أمام تعابير ثلاثة، لفئة واحدة من المدعوين إلى ملكوت الله.
أما التطويبة الرابعة فهي دعوة إلى الفرح في يوم الإضطهاد، اليوم المقبل في أيام يسوع (إضطهاد يسوع) صار حاضرًا في أيام تأليف إنجيل لوقا (أيام الكنيسة اللوقاوية). لذلك لا تعتبر هذه التطويبة تشجيعًا عابرًا بل دعوة للمسيحيين الذين سيقاسون الإضطهاد للدخول من الآن في صيرورة الحدث الخلاصي الذي حققه المسيح في ألمه.
في مقابل التطويبات الأربع تأتي أربع ويلات (24:6-26)، نوع من التعارض الأدبي والتعليمي. بالتأكيد لا يوجه لوقا هذه الويلات نحو التلاميذ أو الجموع التي تصغي إليه وإنما يوجه كلامه هذا لكل من يسمع ويرفض تعليم يسوع بالتوجه نحو الفقير والجائع والحزين، المقصود الكتبة والفريسيون ورجال الدين الذين يهملون الفقراء ويسيئون إلى الجموع التي لا تخضع لإرادتهم. وهذا ما يمكن إستنتاجه من الآية (27) حيث يعود يسوع إلى المستفيدين من التطويبات قائلاً : ” وأما أنتم أيها السامعون، فإني أقول لكم… ” هكذا يُبين لوقا أن الويلات موجهة إلى مستمعين آخرين.
1- طوبى للفقراء ووَيْل للأغنياء
لا يريد لوقا بالفقراء على المستوى الروحي الباطني كما يقدمه متى (فقراء الروح) وإنما يركز لوقا على الفقراء كطبقة إجتماعية مسحوقة. كما يخص بالأغنياء تلك الطبقة التي لا تحتاج إلى شيء. إنه يهنئ من سيحصلون مستقبلاً على سعادة الملكوت التي تعارض بشكل أساسي المال. بين التعلق بالخيرات الأرضية وطلب ملكوت الله، لا يستطيع أحد أن يعبد سيدين (13:16) والشاب المتعلق بالخيرات لم يستطع إتباع يسوع (22:18-23)، والغنى وملذّات الحياة تخنق كلمة الله المزروعة في قلب الإنسان (14:8). الغنى مرفوض بسبب التجاوزات التي يسببها، ظلم الفقراء والتكبر والفسق، وإلخ من التجاوزات. ولكن ليس هذا السبب الأول بل يرفض يسوع – لوقا الغنى في حد ذاته. لا يقول يسوع إن الغني سلب لعازر شيئًا ولكن الغني المتعلق بغناه لأنه غير مبالٍ بالآخر القريب إليه. بعد الموت تنقلب الأدوار، الغني في لهيب القسوة، والفقير يتمتع في حضن إبراهيم. كما ينفرد لوقا بتسمية المال (مأمون الظلم) (9:16) ولذلك ما يجعل يسوع يمدح الوكيل الخائن هو استغناؤه عن المال، عن الضمانات، لا يوجد للتلميذ أي ضمان غير يسوع وكلامه.
2- طوبى للجائعين ووَيْل للشِباعْ
بدل الفقراء يقدم لوقا الجياع، وبدل الأغنياء يقدم الشِباع، نحن أمام تقريب بين الفقراء والجياع من جهة وبين الأغنياء والشباع من جهة أخرى. بالطريقة نفسها نحن أمام فئات إجتماعية واقتصادية وليس على صعيـد الإستعـداد الداخلـي. الويـل للمتخمين المملوءين وفي المقابل تزيد في التهنئة كلمة (الآن) التي كما ذكرنا تشير إلى قرب ما هو موعود به، مقارنة بين الوضع الذي يعيشونه الآن وبين وضعهم المقبل. إشارة إلى الملكوت الآتي لهؤلاء الذين تركهم العالم، لكن الله يتذكرهم دائمًا. يحاول لوقا بيان الفرق بين الأغنياء والفقراء في إنجيله. فمثل الغني الجاهل (19:12)، الغني الذي كل همه الأكل والشرب والتنعم دون حساب لأي شيء آخر. كذلك بالعودة إلى لعازر الفقير الذي يتمنى أن يملأ بطنه من الفتات المتساقط عن مائدة الغني (21:16).
3- طوبى للباكين ووَيْل للضاحكين
يشير لوقا إلى الباكين الذين سيضحكون ويقابلهم بالضاحكين الذين سيبكون يستعمل في كل من التطويبة والتهديد، العناصر نفسها ولكن بطريقة معاكسة تمامًا. يشير إلى المصير المقلوب لكل جماعة من الجماعتين. لا يستعمل لوقا تعبيري الفرح والحزن اللذين يدلان على القيمة الروحية الباطنية كما يفعل متى (5) وأشعيا (49) ونصوص أخرى كثيرة في الكتاب المقدس ؛ ولكن يستخدم صفتين متناقضتين تشير الأولى (البكاء) إلى الجور وكل أنواع القهر والتحقير والحاجة التي سينعم أصحابها بالضحك كعطية من الله على ما أصابهم، بينما تشير الصفة الثانية (الضحك) إلى أولئك المستهزئين بالآخرين غير المبالين إلا لذواتهم والآخر المنكوب فرصة للضحك والإستمتاع، ستنتقل الأمور نتيجة هذا الإستغلال الأعمى للآخر، فيصبح البكاء نتيجة لتكبرهم ونرجسيتهم.
4- المبغضون والمكرمون
تتعلق التطويبة الرابعة والأخيرة بالفقراء أيضًا. يفكر لوقا هنا بمسيحية الفقراء المضطهدين وما يعانونه نتيجة هذا اللقب الأواخري (إبن الإنسان)، لكنه يتوسع في تقديم الصورة التي يريدها يسوع من التلميذ في الآية ” 27 ج ” ” ……… أحسنوا إلى مبغضيكم “. يسوع يدعو الفقراء، الجياع، الباكين والمضطهدين، ليس فقط إلى الفرح المستقبلي الموعود به لمستمعيه بل إلى تحمل المعاملات السيئة، لا إلى السبب الذي من أجله نتحملها، كما يؤكد التخلي عن الإنتقام تجاه أولئك الذين أساءوا إليهم. ولذلك لا يوجه يسوع الويلة الرابعة تجاه المضطِهِدين بل تجاه المُكرَّمين من الناس، تجاه الممدوحين، يبعد يسوع أي باعث ديني في ما يحصل لهؤلاء، على ضوء ما ناله الأنبياء الكذبة من رضى لم يكن له أي أثر في حياتهم، بل على العكس، مجرد حياة مزدوجة مريرة من الناحية الإجتماعية.
التأوين
يدعونا لوقا في عرض للخطبة بهذا الشكل إلى التأمل في حياتنا مع الله في ضوء إيمان كنيسته، إنه ينير حياتنا المهددة بالفقر بأنواعه والإضطهاد بأشكاله برحمة الله الأخاذة التي إذا ما أسلمنا ذواتنا لها، فعلت مفعولها، فلا يعود وضعنا الطبقي أو الإجتماعي سبب مأساتنا وعوقنا الروحي بل يصبح هذا الوضع مجرد واقع معين يمكن تبديله إلى الأفضل من خلال روح الرحمة التي يفيضها الله فينا. خطبة يسوع هذه كشفت ذلك التفوق الإنقلابي تجاه الفقر والغنى، فيحتل فرح الغنى فقرنا. ويضيع طعم كل ثروتنا في هموم العالم وانشغالاتنا عن عيش الفرح الحقيقي مع الآخر في المسيح. عدم تأثير الفقر المادي في حياتنا الروحية هو دافع نستطيع فيه تقدير الخيرات الروحية الممنوحة على الرغم من العوز المادي والجسدي، وهذا التقدير واحتمال المصائب بثقة الإنجيل (الفرح) هو التواضع أمام رحمة الله، إلى حد أن ما يعيشه الإنسان من فقر وجوع وبكاء وإضطهاد ليس النهاية بل هو طريق إلى المجد. مجد الله الذي يصبح حاضرًا في اولئك المختلفين (35:6). اولئك الذين لم يستطع شيء في هذا العالم أن يمنعهم من كشف الله في العالم وتقديم المسيح من خلال حياتهم. رحمة الله هي نداء لطلب ملكوت الله على الرغم من الفقر والإضطهاد، رحمة الله تتجسد في التلميذ الذي يسمع ويعلن ويعيش نداء المسيح.