أوشعنا لإبن داود (73)
(متى 9/21)
الاب زيد عادل حبابة
إنجيل عيد السعانين
” ولما خرج يسوع من إيريحا تبعه جمع كثير، وإذا أعميان جالسان على قارعة الطريق فلما سمعا أنّ يسوع مجتاز صرخا قائلين : ارحمنا يا ربُّ يا ابن داود، فنهرهما الجموع ليسكتا فازدادا صراخًا قائلين : يا رب ارحمنا يا ابن داود. فوقف يسوع ودعاهما وقال : ماذا تريدان أن أصنع لكما. قالا له : يا رب أن تفتح أعيننا، فترأف عليهما يسوع ولمس أعينهما وللوقت انفتحت أعينهما وتبعاه. ولما قربوا من أورشليم وجاءوا إلى بيت فاجي بجانب جبل الزيتون أرسل يسوع اثنين من تلاميذه، وقال لهما : إذهبا إلى هذه القرية التي أمامكما وللوقت تجدان اتّانًا مربوطة وجحشًا معها فحلاهما وآتياني بهما، فإن قال لكما أحد شيئًا فقولا له : الرب محتاج إليهما، فللوقت يرسلهما إلى ههنا، هذا كله كان ليتم ما قيل بالنبي القائل، قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك متواضعًا راكبًا على أتان وجحش إبن أتان. فانطلق التلميذان وصنعا كما أمرهما يسوع. وأتيا بالأتان والجحش ووضعا ثيابهما على الجحش وركبه يسوع. وكان كثير من الجموع يفرشون ثيابهم في الطريق وكان آخرون يقطعون أغصانًا من الشجر ويطرحونها في الطريق، وكان الجموع الذين يتقدمونه ويتبعونه يصرخون قائلين : أوشعنا لإبن داود مبارك الآتي باسم الرب، أوشعنا في الأعالي، ولما دخل إلى أورشليم إرتجت المدينة كلها قائلين : من هو هذا. فقالت الجموع : هذا هو يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل، ودخل يسوع هيكل الله وأخرج جميع الذين يشترون ويبيعون في الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام. وقال لهم مكتوب : إن بيتي بيت صلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة للصوص. وقدموا إليه في الهيكل عميانًا وعرجًا فشفاهم “.
(متى 29/20-15/21)
أولاً : ماذا يقول هذا النص ؟
يتكون النص الإنجيلي الذي نحن بصدده من مقطعين : الأول هو قصة الأعميين، التي تمثل نهاية الفصل (20)، وأما الثاني فهو خبر دخول يسوع إلى أورشليم وتطهيـره الهيكل الذي يفتتـح الفصـل (21). ليس صدفة أن يبدأ نص إنجيل عيد السعانين بقصة الأعميين، التي تحتل موقعًا بارزًا في إنجيل متّى، إذ تمثل المفصل بين نهاية مرحلة تجوال يسوع وبداية مرحلة جديدة له، متجهًا إلى أورشليم، حيث أن رسالته، التي أخبرنا عنها متّى في الفصول السابقة تصل الآن إلى ذروتها في دخوله إلى أورشليم.
يرى متّى، منذ بداية الإنجيل، أن يسوع هو المسيح الذي تكلّمت عليه الكتب ؛ لذلك فإنه يشدد على علاقته بالعهد القديم، ويستشهد بالكثير من أقوال الأنبياء الذين تكلموا على المسيح المنتظر في إثباته أن يسوع هو تحقيق لكل هذه النبوءات. ويظهر متّى، في وقت التناقض بين قبول المسيح من قبل الوثنيين والبسطاء والمهمشين والأطفال، وبين رفضه من قبل علماء الشريعة ورؤساء اليهود. ” أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء ” (متى 25/11).
هذا ما أراده متّى من قصة الأعميين، اللذين هما نموذج رائع للإيمان بإعلان إعترافهما بسيادة يسوع، وهو صاعد إلى أورشليم، بينما لم يرَ الجمع المتحمس ليسوع سوى ” المسيح ” الذي سيخلصهم من سيطرة الرومان ويحقق طموحاتهم السياسية ! لذلك حاولوا أن يسكتوا الأعميين، كي لا يعيقان مسيرة ابن داود نحو أورشليم ؛ على أن يسوع وقف لكي يساعد ويخدم ؛ يظهر لنا النص قدرة يسوع التي تذهب عكس التيار ؛ يدعو يسوع الأعميين ويحقق لهما طلبهما، مشفقًا على حالتهما المعدومة وملبيًا إيمانهما المُعلن. فيكشف يسوع عن نفسه أنه المسيح الطيب والشفوق، الذي يتأثر بألم الآخرين، ويخلّص البشر من أمراضهم ؛ وما أن إنفتحت أعينهما حتى تبعاه وصعدا معه إلى أورشليم.
وفي المقطع الثاني من نص إنجيلنا أعلاه، يركّز متّى – بالجمع بين هذا الدخول وتطهير الهيكل – على الدور المسيحاني ليسوع : إنه الملك المتواضع والرحيم الذي يصعد إلى المدينة المقدسة لا ليدين الشعب ويحكم عليه بل ليخلّصه، بتقدمة حياته على الصليب ؛ فبه ستتحقق نبوءة زكريا ” إبتهجي يا بنت صهيون، واهتفي يا بنت أورشليم. ها ملكك يأتيك عادلاً مخلصًا وديعًا راكبًا على حمار، على جحش إبن أتان ” (9/9). لكن أورشليم لم تستطع أن تفرح وتبتهج، لأنها لم تستقبل الخلاص، بل رفضت ذاك الذي دخل إليها، متواضعًا راكبًا على جحش، ومعلنًا سلام الله وأمانته تجاه شعبه، وفق ما جاء في الكتاب وعلى لسان الأنبياء.
على أن الجموع والكثير من البسطاء في أورشليم، على العكس من رؤسائها، إبتهجوا فرحين بقدوم يسوع ورأوا فيه الملك القادم لخلاصهم، بعد أن كانوا قد رأوا أعماله، التي شهدت له أنه المسيح فاستقبلوه بمظاهـر الفـرح والإكرام، هاتفيـن : ” أوشعنا لإبن داود ” رابطيـن هكذا بيـن كلمة ” أوشعنا “، التي تعني خلصنا، وبيـن ” إبـن داود “، تعبيرًا عن اعتراف بأن يسوع هو المسيح الذي كانوا ينتظرون مجيئه.
ويلي الإستقبال مشهد دخول يسوع إلى الهيكل ليطهّره كمن له سلطان، تحقيقًا لكلام الأنبياء في المسيح المنتظر : ” ولا يكون تجار في بيت الرب القدير في ذلك اليوم ” (زكريا 21/14) ؛ ” فهذا البيت الذي دعي باسمي هل صار مغارة للصوص أمام عيونكم ؟ بل أنا رأيت ذلك ” (ارميا 11/7). وفي الهيكل يقدمـون له العميـان والعـرج، أي أولئك المحرومين مما يَحقّ لهم ومن الدخول إلى هذا المكان المقدس، فيحنو عليهم ويشفيهم، كاشفًا عن ذاته كونه المسيح المتواضع الذي جاء حاملاً الخلاص للجميع.
ثانيًا : تأوين النص
يريد ربنا يسوع الخلاص لنا ؛ وهذا الخلاص لا يتحقق دون أن ندعوه وندعه يملك على حياتنا وعالمنا. هو يريد الدخول إلى قلوبنا ليرفع منها كل ما يمنعها من أن تكون هيكلاً للروح القدس وبيتًا للصلاة ؛ فكم من فوضى في علاقاتنا معه ومع ذاتنا ومع الآخرين ؟ كم من أفعال وتصرفات نقوم بها ليست في محلها ؟ كم من مساومات نقبلها في حياتنا ؟ كل هذه وأمور أخرى كثيرة تسيطر على حياتنا، وقد كوّنت غشاءً على عيوننا فلم نعد نميّز النور وبتنا نعيش في الظلام !
ربنا يريد أن يخلصنا من سيطرة الظلام، يريد أن يفتح عيوننا لكي نتعرّف على حقيقته، كونه المسيح الذي جاء لخلاصنا، ولكي نتبعه ونسير وراءه حتى في دخوله إلى أورشليم، كما فعل الأعميان، لكي نكمّل إرادة الله أبينا كما فعل هو. فخطورة العمى هي في عدم رؤية يسوع وفي عدم التعرف عليه مخلّصًا.
يسوع، بدخوله إلى أورشليم، يدخل اليوم إلى بيوتنا، إلى شوارعنا، إلى قلوبنا، إلى قلب كلّ واحد منّا، ويقول لنا بأن ملكوت الله قريب، إنه ملكوت حب وسلام وتواضع.
إذا أردنا اليوم أن نعيش هذا الإنجيل، علينا أن نقبل بتدبير الخلاص الذي قدّمه لنا ملكنا المتواضع، الخلاص من أنفسنا ومن رغباتنا الأنانية التي تقتل الإنسان فينا، خلاص من العمى (عمى القلب) الذي لا يدعنا نرى النور ونكتشف الحقيقة، حقيقة يسوع المسيح، كما طلب منه الأعميان الجالسان على قارعة الطريق. المسيحي ينتمي، بفعل العماذ، إلى المسيح، فعليه أن يتنبّه إلى واجبات هذا الإنتماء الأساسية وهي : محبة الله ومحبة كل إنسان مخلوق على صورة الله ومدعو إلى ملكوته، والخدمة بتواضع دون إشتهاء السلطة والإعجاب بها، وقبول يسوع دون الخوف من أن يقدس حياتنا بروحه القدوس.
ثالثًا : صلاة من وحي النص
أيها الرب يسوع، نطلب إليك متوسّلين أن تشفق علينا وترحمنا، كما رحمت الأعميين، فبدونك نحن مشردون، جالسون في ظلام، غارقون في الأحزان، وكأن لا معنى لحياتنا. إفتح عيوننا لكي نرى نورك ونتعرّف عليك، إنك أنت المسيح الآتي لخلاصنا من ظلمتنا وانغلاقنا وحزننا وسطحيتنا ولامبالاتنا : من خطيئتنا !
نطلب منك أن تَدخُل إلى قلوبنا، كما دخلت إلى هيكل أورشليم، وأن تطهّرها من كل ما لا يليق بك، لتكون مسكنًا لك ولروحك القدوس ؛ وتصبح هكذا مكانًا لائقًا لحضور الله فيها، فينعكس هذا الحضور الإلهي على إنساننا، ونغدو أكثر تواضعًا ووداعةً وشفقةً… عندها نستحق أن ننضم إلى موكب الجموع ونرتل لك معها بفرح وابتهاج : أوشعنا لابن داود مبارك الآتي باسم الرب. آمين.