القراءات الكتابية الطقسية

أريد رحمةً لا ذبيحةً ” (71)

أريد رحمةً لا ذبيحةً “
(متى 7/12)
الاب زيد عادل حبابة

إنجيل الأحد الثاني من تقديس البيعة
” في ذلك الزّمان كان يسوعُ في السبتِ يسيرُ بين الزُّروع فجـاع تلاميذُهُ فجعلـوا يقلعـون سُنبُلاً ويأكُلـون. فـلمّا رآهُم الفرّيسيّون قالوا لهُ : هوذا تلاميذُك يفعلون ما لا يحِلُّ أن يُفْعَلَ في السّبتِ. فقال لهم : أما قرأتُم ما فعل داودُ حين جاع هو والّذين معهُ ؟ كيف دخل بيتَ الله وأكل خُبْزَ مائدةِ الرّب الّذي لا يَحِلُّ لهُ أكْلُهُ ولا للّذين معهُ إلاّ للكهنةِ فقط. أو َما قرأتُم في التّوراةِ أن الكهنةَ في الهيكل ينقُضون السّبتَ ولا يكون عليهم ذنبٌ ؟ وأنا أقولُ لكم إنَّ ههنا أعظمَ من الهيكل. فلو كنتُم تعلَمون ما هو : إني أريد رحمةً لا ذبيحة لما حكمتم على مَن لا ذنبَ لهم. على أن ربَّ السّبتِ هو إبنُ البشر “.
                                                 (متى 1/12-8)
ماذا يقول النص ؟
يفتتح نَصُّنا هذا الفصل (12) من إنجيل متى، وهو يمثِّل مع الفصل (11) نقطة تحول في الإنجيل ؛ فبعد بشارة يوحنا المعمذان بالملكوت (متى 2/3)، وبشارة يسوع في التطويبات (متى 5-7) والأعمال التي قام بها لأجل الشعب (متى 8-9)، وما صنعه الرسل (متى 10)، يواجه يسوع الآن الرفض من الذين لم يؤمنوا به.
فيُظهِر متى في هذا النص التعارض الموجود بين ثقل الشريعة التي يتمسك بها الفريسيون، والحمل الخفيف الذي يقدمه يسوع. وهذا ما توضحه الآيتان السابقتان لنصنا : ” تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم أحملوا نيري وتعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب ” (متى 28/11-29). وهكذا سنفهم سبب الجدالات بين يسوع والفريسيين فيما يخص الشريعة، ولا سيما شريعة السبت.
يُعتبر السبت، حسب الشريعة الموسوية، يومًا مخصصًا للراحة ومكرسًا كليًا لله (خروج 8/20-11، عدد 9/28-10). ورغبة الفريسيين في المحافظة على الشريعة يوم السبت، جعلتهم يصيغون لائحة صارمة من التعليمات والقوانين مكونة من 39 فقرة، تذكر الأعمال التي يمنع القيام بها في ذلك اليوم المكـرس لله، ومنها تلك التـي لها علاقـة بالحصاد، وبالتالي فإن قلع السنابل في هذا اليوم يعتبر خرقًا لقوانين السبت ؛ وبما أن الفريسيين يُعتَبرون حراسًا للشريعة فهم يطلبون من يسوع تفسيرًا لهذا الخرق مستندين بإدعائهم إلى الشريعة. يجيب يسوع الفريسيين منطلقًا من الشريعة نفسها، فيتضمن جوابه ثلاثة براهين يستمدها من التوراة والأنبياء، تبرر فعل التلاميذ وسلطته على الشريعة :
البرهان الأول يستمده من سفر صموئيل الأول (2/21-7)، حيث يذكر حادثة مشابهة جرت لداود إذ ذهب إلى أبعد مما هو مكتوب في شريعة العبادة عندما أكل من خبز التقدمة المخصص للكهنة فقط ؛ ولو أن هذا لا علاقة له بشريعة السبت، لكنه أراد أن يبين لهم إمكانية تجاوز بعض الممنوعات عند الضرورة.
وفي البرهان الثاني يبين بأن الكهنة في الهيكل كانوا ينقضون شريعة السبت لأجل ضرورة خدمتهم في تقديم القرابين كما يظهر في سفر اللاويين (5/24-6)، وكذلك في سفر العدد (9/28-10) ؛ وهذا يدل على أن قوانين الهيكل هي أعظم قوانين السبت، ويضيف يسوع قائلاً : ” ههنا اعظم من الهيكل ” (متى 6/12) ؛ فهو يقدم نفسه الهيكل الحقيقي الذي يجسد حضور الله.
أما في البرهان الثالث فيستشهد يسوع بآية من نبوءة هوشع (6/6) ” أريد الرحمة لا الذبيحة.. ” داعيًا الفريسيين ليتذكروا بأن المعنى العميق للعبادة والشريعة كامن في الرحمة، وبأنه هو رب السبت (متى 8/12).
أراد متى بهذه الحادثة أن يدين الفريسيين الذين أنساهم تفسيرهم الحرفي للشريعة، الرحمة التي تطلبها الشريعة ؛ وأن الشريعة هي التعبير الحقيقي والشامل عن إرادة الله. ويكشف، في الوقت نفسه، لجماعته سر يسوع المسيح من حيث أنه هيكل الله الحقيقي لهذا هو سيد الشريعة والسبت.
ماذا يقول النص لنا ؟
إن حضور ربنا مع شعبه ومعنا اليوم هو تعبير عن محبته لنا، المحبة التي من شأنها أن تحترم الإنسان وترفع من قيمته. فحضوره ليس حضورًا متعبًا ومرهقًا للإنسان بل هو حضور شافٍ ورحيم، ومقوٍّ ومعزٍّ. إنه حضور يرافق الإنسان في حياته بحلوها ومرها. إن أعظم خدمة وعبادة يمكننا أن نؤديها هي خدمة الناس والشعور باحتياجاتهم كما صنع يسوع خلال حياته. لذا نسمعه يقول للفريسيين ولنا كلمات النبي هوشع : ” أريد رحمةً لا ذبيحةً ” (6/6). وهذا ما عاشه يسوع في حياته كلها ومارسه بأعمال الرحمة التي كان يفعلها لأجل الإنسان، من شفاءات لكثير من المرضى، وقبول للخطأة. ما يريده منا ربنا هو أن نكون رحماء، بهذا نخدم الله ونطبق شريعته. فما الفائدة من الذبائح التي نقدمها لله إن لم يكن في قلبنا رحمة لأخينا الإنسان ؟ أو ما الفائدة من الصوم والصلاة وجارنا يتضور جوعًا ؟
ربنا لا يريد أن ينقض الشريعة وإنما يريد أن يكملها ويعطيها معناها العميق وأبعادها الحقيقية. فالشريعة تهدف إلى خير الإنسان والرفع من قيمته وكرامته. فالسبت هو من أجل الإنسان وليس العكس. هذا لا يعني أنه يحق لنا أن نخالف كل القوانين والأنظمة والشرائع، وعلينا أن ننتبه أن لا نسيء إلى أخينا الإنسان لأجل قانون أو شريعة وضعت أصلاً لخدمة الإنسان.
إن ما يريد ربنا أن يبشرنا به، ونحن في زمن تقديس البيعة، هو أن الكنيسة لا تبنى ولا تقدس بحفظ الوصايا وتطبيق الشرائع والقوانين فحسب، وانما بقبول رحمة الله بيسوع المسيح ونقلها إلى العالم. فهذه هي رسالتها ومسؤولية كل عضو فيها من الإكليروس والعلمانيين. فإذا ما أرادت الكنيسة اليوم أن تتقدس وتتطهر عليها أن تكون رحيمة كمؤسسها، متخذة من وصية المحبة مقياسًا به تُقيّم كل الشرائع والقوانين، يقول الرب : ” سأجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها في قلوبهم ” (عبرانيين 10/8)، بهذا تصبح الشريعة شيئًا داخليًا، ينبع من داخل الإنسان لا شيئًا خارجيًا يضاف اليه.
صلاة من وحي النص :
يا رب، أنِر ضمائرنا ببشارتك، وأضرم قلوبنا بمحبتك، كي نعمل دومًا مشيئتك. إجعلنا نفهم أن الرحمة تجاه الإنسان هي جوهر شريعتك، وأن تحرير الإنسان من جميع أشكال العبودية هي غايتك ؛ إجعلنا نعي رسالتنا في الحياة، كل حسب موقعه ومسؤوليته ومنصبه. أمامنا فرصة لخدمة أخينا الإنسان، فلا تجعلنا نستغلها لإرهاقه وتحطيمه ؛ قوّنا لكي نعمل إرادتك بأن نكون لأخينا الإنسان، علامة رحمتك ومحبتك، فنسعى دومًا إلى رفع شأنه وتحريره من كل ما يعيق مسيرته نحو نضوجه الإنساني والروحي، آمين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى